Wadahadalada Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Noocyada
مقدمة
فاتحة
المحاورات
المحاورة الأولى
المحاورة الثانية
المحاورة الثالثة
المحاورة الرابعة
المحاورة الخامسة
المحاورة السادسة
المحاورة السابعة
Bog aan la aqoon
المحاورة الثامنة
المحاورة التاسعة
المحاورة العاشرة
المحاورة الحادية عشر
المحاورة الثانية عشرة
المحاورة الثالثة عشرة
المحاورة الرابعة عشرة
المحاورة الخامسة عشرة
المحاورة السادسة عشرة
المحاورة السابعة عشرة
Bog aan la aqoon
المحاورة الثامنة عشرة
المحاورة التاسعة عشرة
المحاورة العشرون
المحاورة الحادية والعشرون
المحاورة الثانية والعشرون
المحاورة الثالثة والعشرون
المحاورة الرابعة والعشرون
المحاورة الخامسة والعشرون
المحاورة السادسة والعشرون
المحاورة السابعة والعشرون
Bog aan la aqoon
المحاورة الثامنة والعشرون
المحاورة التاسعة والعشرون
المحاورة الثلاثون
المحاورة الحادية والثلاثون
المحاورة الثانية والثلاثون
المحاورة الثالثة والثلاثون
المحاورة الرابعة والثلاثون
المحاورة الخامسة والثلاثون
المحاورة السادسة والثلاثون
المحاورة السابعة والثلاثون
Bog aan la aqoon
المحاورة الثامنة والثلاثون
المحاورة التاسعة والثلاثون
المحاورة الأربعون
المحاورة الحادية والأربعون
المحاورة الثانية والأربعون
المحاورة الثالثة والأربعون
خاتمة
مقدمة
فاتحة
المحاورات
Bog aan la aqoon
المحاورة الأولى
المحاورة الثانية
المحاورة الثالثة
المحاورة الرابعة
المحاورة الخامسة
المحاورة السادسة
المحاورة السابعة
المحاورة الثامنة
المحاورة التاسعة
المحاورة العاشرة
Bog aan la aqoon
المحاورة الحادية عشر
المحاورة الثانية عشرة
المحاورة الثالثة عشرة
المحاورة الرابعة عشرة
المحاورة الخامسة عشرة
المحاورة السادسة عشرة
المحاورة السابعة عشرة
المحاورة الثامنة عشرة
المحاورة التاسعة عشرة
المحاورة العشرون
Bog aan la aqoon
المحاورة الحادية والعشرون
المحاورة الثانية والعشرون
المحاورة الثالثة والعشرون
المحاورة الرابعة والعشرون
المحاورة الخامسة والعشرون
المحاورة السادسة والعشرون
المحاورة السابعة والعشرون
المحاورة الثامنة والعشرون
المحاورة التاسعة والعشرون
المحاورة الثلاثون
Bog aan la aqoon
المحاورة الحادية والثلاثون
المحاورة الثانية والثلاثون
المحاورة الثالثة والثلاثون
المحاورة الرابعة والثلاثون
المحاورة الخامسة والثلاثون
المحاورة السادسة والثلاثون
المحاورة السابعة والثلاثون
المحاورة الثامنة والثلاثون
المحاورة التاسعة والثلاثون
المحاورة الأربعون
Bog aan la aqoon
المحاورة الحادية والأربعون
المحاورة الثانية والأربعون
المحاورة الثالثة والأربعون
خاتمة
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
تحرير
لوسيان برايس
تقديم
زكي نجيب محمود
Bog aan la aqoon
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
عملية الفكر تنحل - آخر الأمر - إلى وحدات أولية بسيطة، قوام الوحدة الواحدة منها سؤال وجواب، وقد يكون الشخص الواحد - إذ يفكر لنفسه - سائلا ومجيبا في آن معا، فهو الذي يلقي السؤال على نفسه، وهو الذي يحاول الجواب، وقد يكون السائل شخصا والمجيب شخصا آخر، فلا فرق بين هاتين الحالتين في الجوهر والأساس، ففي كلتيهما «محاورة» هي أس الفكر ولبابه؛ فالفكرة الواحدة بالغة ما بلغت من البساطة كان يستحيل عليها أن تنشأ في ذهن صاحبها، ما لم يكن صاحبها هذا قد وقف من الأمر موقف المتسائل، سواء أخرج سؤاله في صياغة لفظية صريحة، أم لبث مستكنا يظهر في «الوقفة» وفي «النظرة» إن لم يظهر في اللفظ المسموع، قل لنفسك: «إن الشمس طالعة»، أو «إن السماء غائمة» يكن هذا القول جوابا منك عن سؤال أضمرته: «كيف حالة الجو الآن؟»
أساس الفكر حوار، ولقد عبر الإنسان عن نفسه محدثا ومحاورا قبل أن يعبر عن نفسه كاتبا، بعشرات الآلاف من السنين، فمهما بلغ تاريخ الكتابة من القدم، فقد سبقها الكلام، لا، بل إنه محال على الكتابة أن تقاس إلى الكلام في التعبير عما تضطرب به النفس من مشاعر وما يدور في الرأس من خواطر؛ فأنت تعرف الشخص من حديثه أكثر جدا مما تعرفه من كتابته، ذلك بالطبع إن أرسل كلامه على سجيته، ولا عجب أن قال سقراط إلى جليس له ذات مرة إذ رآه صامتا: كلمني لكي أراك.
ولعل الحديث لم يبلغ أوجه إلا على لسان سقراط، ذلك المحدث العظيم الذي كان أول من سجل تاريخ الآداب مثلا للحديث يكون فنا ولا يكون لغوا، نعم ففن الحديث له علائمه وشروطه كأي فن آخر؛ فهو فن إذا خرج منه المتحدثان أخصب فكرا وأصفى نفسا وأرحب أفقا وأغزر شعورا. إن الواحد منا ليحس أحيانا كأنما يريد أن يقول شيئا ولا يعرف كيف يقوله، فالفكرة عندئذ تكون كأنما هي الجنين الذي لم يكتمل خلقا، أو كأنما هي النسمة المبعثرة تسري في كيانه ولم تجتمع أطرافها بعد لتسلك سبيلها إلى اللسان والشفتين ألفاظا مرتبة في أنفاس معبرة، فالحديث فن إذا ترجم لصاحبه عن شعوره ترجمة تحيل ذلك الشعور عقلا؛ أعني أنها تحيله شيئا فشيئا مفهوما لسامعه. ترى ماذا كانت تعني الطبيعة وكيف كانت تكون آثار الفن إذا لم تجد هذه وتلك من في مقدوره أن يتأثر بها ثم يفصح لنا عما تأثر به في كلام بليغ نفهمه فنفهم به الطبيعة والفن جميعا؟ ترى كيف كانت تكون حالة العلوم نفسها إذا لم يكن بين العلماء أحاديث، فهذا يسأل وذلك يجيب، وهذا يعترض وذلك يشرح ويوضح؟ ترى هل كانت تقوم للجماعة قائمة بغير حديث يربط أفرادها كأنما هو الخيوط يشد بعضهم إلى بعض؟
وأعجب العجب أن يكون للحديث الفني هذا الخطر البالغ، ثم لا يفسح له تاريخ الأدب مكانا ملحوظا بين سائر صوره، فقل أن تجد في شتى اللغات أحاديث مسجلة كما وقعت. ومن الأمثلة القليلة التي ترد على الذهن محاورات أفلاطون التي تعد آية في طلاوة فنها وغزارة فكرها، لكنها إن بدت في ظاهرها حديثا تلقائيا بين المتحاورين فهي في حقيقتها مسيرة ملجمة لتبلغ كل محاورة منها هدفها المقصود، فبرغم ما قد ورد على لسان سقراط في إحدى المحاورات وهو يخاطب محاوريه قائلا: فلنتبع الحديث إلى حيث يسوقنا، إلا أن فيلسوفنا لم تغب عنه أهدافه أبدا؛ وبهذا جاءت المحاورات الأفلاطونية في صورة الحديث، لكنها تخلو من خصائص الحديث العابر المنساب.
ومن الأحاديث المسجلة في تاريخ الأدب كذلك، حديث «جونسن» كما صوره مرافقه «بوزول»، وكذلك حديث «جيته» كما سجله «أكرمان»، وعندنا في الأدب العربي أمثلة أقربها شبها إلى المحاورات التي نحن الآن بصدد تقديمها إلى القراء، هي أحاديث أبي حيان التوحيدي التي جمعت في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، وهو من ثلاثة أجزاء. وهنا نقف وقفة قصيرة نقارن فيها بين الرجلين.
تتألف محاورات هوايتهد من ثلاثة وأربعين حديثا دارت في بيته بينه وبين طلابه وأصدقائه في الأمسيات التي كان يخصصها لمثل تلك الاجتماعات وهو أستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وكان من هؤلاء الأصدقاء صحفي أديب هو «لوسيان برايس»، فكان - بحكم حرفة الصحافة - يسجل لنفسه تلك الأحاديث كما كانت تقع حتى اجتمعت له منها مجموعة، فاختار منها ثلاثة وأربعين حديثا؛ أولها حديث السادس من أبريل عام 1934م، وآخرها حديث الحادي عشر من نوفمبر عام 1947م (مات هوايتهد في الثلاثين من ديسمبر عام 1947م وهو في السابعة والثمانين من عمره).
وتتألف أحاديث أبي حيان التوحيدي الواردة في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» من سبعة وثلاثين حديثا، وقع كل منها في ليلة ساحرة من الليالي التي قضاها في حضرة الوزير أبي عبد الله العارض، وقصة ذلك اللقاء هي أن أبا الوفاء المهندس - وهو من الأئمة المشهورين في علم الهندسة - كان صديقا لأبي حيان وصديقا للوزير أبي عبد الله العارض، فقرب أبو الوفاء أبا حيان من الوزير، ووصله به ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيان من سماره، فسامره سبعا وثلاثين ليلة، كان الوزير يطرح عليه أسئلة في شتى الموضوعات فيجيب عنها أبو حيان، ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، فأجابه أبو حيان إلى طلبه، ودون كل ما دار بينه وبين الوزير في تلك الأماسي السامرة؛ فكان من ذلك كتاب «الإمتاع والمؤانسة».
Bog aan la aqoon
فأبو حيان في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة الوزير، هو هوايتهد في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة طلابه وأصدقائه؛ وأبو الوفاء المهندس الذي كان له فضل تسجيل تلك الأحاديث، هو لوسيان برايس الذي كان له فضل تسجيل محاورات هوايتهد، والحديث في كلتا الحالين مكتوب من الذاكرة بعد أوان حدوثه؛ والوزير في قصة أبي حيان يقابله المجتمع المثقف في قصة هوايتهد؛ وقصر الوزير الذي دارت فيه تلك الأحاديث في القرن الحادي عشر الميلادي، يقابله مسكن متواضع من أربع حجرات لهوايتهد، هو الذي جمع الأصدقاء وشهد الحوار في القرن العشرين.
والطريقة في الكتابين واحدة؛ ففي حالة أبي حيان كان الوزير أحيانا يعد سؤالا يلقيه ويترك أبا حيان يجيب له عنه دون أن يضيف هو من عنده شيئا أو يعترض على شيء، لكنه أحيانا أخرى كان يعترض ويحاور، وكذلك الحال بالنسبة إلى هوايتهد؛ والموضوعات في كل من الكتابين قد تنوعت تنوعا شمل صنوفا متباينة من المسائل، وأتاح الفرصة لصاحب الإجابة أن يعبر عن نفسه من شتى نواحيه؛ فما أظن أبا حيان قد ترك جانبا من جوانبه لم يظهره في الجواب عن هذا السؤال أو ذاك، وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى هوايتهد، فلو قد ترك هوايتهد لمؤلفاته الفلسفية وحدها، لما عرف عنه الناس إلا أحد جوانبه دون سائرها.
إن الليالي السامرة التي قضاها أبو حيان مع وزيره، والليالي السامرة التي قضاها هوايتهد مع أصدقائه وطلابه، لتذكرنا بشهرزاد وأحاديثها في ألف ليلة وليلة، فحلاوة الحديث هي المحور في هذه الأمثلة الثلاثة جميعا، والفرق هو أن أحاديث شهرزاد قد ركبت متون الخيال، وأما فيلسوفانا أبو حيان وهوايتهد فقد أعملا فيها الفكر وتعرضا لأعوص المشاكل وأعقدها، مع خفة الحديث وانسيابه وطلاوته.
وإنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع الشبه ومواضع الخلاف بين هذين المحدثين العظيمين، التوحيدي وهوايتهد - وما الشبه والخلاف بين رجلين كهذين إلا انعكاس لأوجه الشبه والخلاف بين عصرين وثقافتين - أقول إنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع المقارنة بينهما، أن نتعقب فكرة بعينها كيف وردت في سياق الحديث عند التوحيدي من جهة، وعند هوايتهد من جهة أخرى، وكيف كان الرأي فيها، فانظر - مثلا - إلى رأيهما في الشعر خاصة، وفي الأدب عامة.
أما هوايتهد فبعد أن يلفت النظر إلى قصور اللغة دون التعبير الكامل عن خبرة الإنسان الباطنية، يستطرد فيقول (الليلة الرابعة والعشرون من محاوراته): إن الإمساك بالخبرة الوجدانية قبل أن تفلت وتختفي هو من أخص خصائص الشعر الرفيع، فهو عندئذ يكاد يوفق إلى تصيد إحدى لحظات السعادة النشوى أو الألم الأليم، يتصيدها في أحبولة الكلمات على نحو يقربها إلى القارئ أو السامع؛ لأن اللفظ - على كل حال - هو صوت، والعلاقة بين الصوت من جهة وبين الوجدان الذي تضطرب به النفس من جهة أخرى هي علاقة متكلفة معتسفة، وإذا شئت فاستخرج معاني كلمات القصيدة كما وردت في المعجم، واجمع تلك المعاني بعضها إلى بعض، تجد البون شاسعا بين حصيلتها وبين ما قصد إليه الشاعر؛ لأن الشاعر قد أضاف إلى معانيها المعجمية نغمات عاطفية، وكثيرا ما تنضاف هذه الإضافة إلى معنى الكلمة فيما بعد ، فتصبح جزءا منه ؛ وبهذا يغزر معنى الكلمات بفضل الشعراء، على أنه مهما بعدت الألفاظ عن كوامن النفس، فهي في الشعر أقرب ما تكون إليها، ففي الشعر وحده تتجلى البواطن النفسية الخوافي، حتى لنحس ونحن نقرأ الشعر أو نسمعه أننا نجد فيه أنفسنا.
ويعود هوايتهد في محاورة أخرى (الليلة الثالثة بعد الأربعين) فيتناول موضوع اللغة وعجزها عن التعبير عما تكنه النفس، فيقول: إنه ليدهشني كم تقصر اللغة دون التعبير عما يدور في فكرنا الواعي، ثم كم يقصر هذا الفكر الواعي دون التعبير عما يختلج به اللاوعي في أعماق نفوسنا، لقد أقامت الفلسفة بناءها على أساس افتراضها بأن اللغة وسيلة تعبيرية مضبوطة، فترى الفلاسفة يجرون الفكرة المعينة في عبارة لفظية ثم يحسبونها قد استقرت في صورتها الدقيقة إلى الأبد، مع أن هذه الفكرة - حتى على فرض الدقة التامة في العبارة التي استخدمها الفيلسوف للتعبير عنها - تتغير أبعادها فتحتاج إلى إعادة التعبير عنها في كل قرن مرة، بل في كل جيل مرة؛ لأن الفكرة تنمو، ولعل أفلاطون وحده بين الفلاسفة جميعا هو الذي تنبه إلى ذلك ولم يقع في فخ الكلمات، فتراه على بينة تامة من هذا الجانب المراوغ في الأفكار، ولذلك إن استعصت الفكرة على اللفظ استخدم للتعبير عنها الأساطير، والأسطورة بطبيعتها لا تدعي دقة التعبير بقدر ما يراد بها إثارة التأمل.
ويمضي هوايتهد في حديثه هذا فيقول: إن الرياضة أدق من لغة الكلام، وهي أقرب إلى الحق؛ ولذلك فلا يبعد أن يجيء يوم بعيد فتصبح الرياضة هي وسيلة الناس في التفاهم بدل الكلام المألوف لنا اليوم، والحق أن كل ما يدور به الفكر الواعي، وما نصوغه في عبارات اللغة، هو - بالقياس إلى الكامن الدفين في نفوسنا - سطحي ضحل تافه، وأما الأعماق العميقة فلا تتبدى أمام الوعي أو تنطلق في عبارات اللغة، إلا في اللحظات النادرات، وهي هي اللحظات التي لا تنسى من حياتنا، وفي تلك اللحظات نشعر - أو قل إننا عندئذ نعلم - أننا إنما نستخدم أدوات لقوة أعظم منا؛ لنحقق لها أهدافا أعلى من أهدافنا، وإن أمثال هذه اللحظات لتكثر عند العباقرة، لكن ليس منا من لم تمر بحياته لحظات كهذه، وفي الإمساك بهذه اللحظات الإشراقية تكون عظمة الشعر والشعراء؛ لأنهم هم الذين يعبرون عنها بلفظ قمين أن يقرأه القارئ أو يسمعه السامع فيحس بدوره أن تلك اللانهاية في آماد الفكر والشعور قد لمحها في حياته الداخلية لمحا، لكنها اندثرت لولا أن جاء هذا الشاعر فأخرجها له لفظا.
إن هذا الشعر الذي يفصح عن اللانهاية بلفظ محدود، لا يحتاج إلى علم واسع، بل إن قلة العلم كثيرا ما كانت هي علة ارتفاع الشاعر، كما هي الحال في شكسبير، الذي لو ازداد علما لقل ارتفاعا في شعره، على عكس ملتن الذي كان شعره ليزداد ارتفاعا لو قل علما.
وأما محدثنا العربي أبو حيان التوحيدي، فيتناول الموضوع نفسه (في الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة) فيفرق نفس التفرقة التي أشار إليها هوايتهد، بين الوعي واللاوعي؛ فالأول يرتكن إلى عقل محدود ولغة قاصرة، والثاني يرتكن إلى لمحات الروح في إدراكه وفي التعبير عنه، لكن التوحيدي يقول هذا بلغته فيقول: «الكلام ينبعث في أول مبادئه إما عن عفو البديهة وإما عن كد الروية، وإما أن يكون مركبا منهما، وفيه قواهما بالأكثر والأقل؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل، وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما؛ على أنه إذا خلص هذا المركب من شوائب التكلف وشوائن التعسف، كان بليغا مقبولا رائعا حلوا، تحتضنه الصدور وتختلسه الآذان.»
في هذه العبارة المركزة يقدم لنا التوحيدي مقارنة بارعة بين إدراك العقل - وإن شئت فقل إدراك العلم والفلسفة - وبين إدراك البصيرة الفطرية - وإن شئت هنا أيضا فقل إدراك الشعر والفن - فلمحة الشاعر والفنان ببصيرته ترى جوهر الحق «أصفى» لأنها تزيل شوائب الجزئيات العابرة لتغوص إلى الجوهر الدفين، لكن نظرة العالم أو الفيلسوف «أشفى» لأنها تعنى بحياة الناس العملية فتقدم إليهم ما ينفعهم في مجرى السلوك اليومي، وما أجمل وأنفع أن نجمع في حياة واحدة بين علم وشعر!
Bog aan la aqoon
وإن التوحيدي ليتناول في هذه الليلة موضوع النثر والشعر من شتى نواحيه؛ ليبين متى يفضل كل منهما الآخر، وإنا لنحيل القارئ إلى كتاب الإمتاع والمؤانسة ليقرأ عرض الفكرة مفصلا. •••
ونضرب مثلا آخر بفكرة أخرى يتعرض لها الرجلان؛ فكرة الخوارق التي تميز شعبا من شعب، والمفاضلة بين خصائص الشعوب، فأيها يكون أرقى، وأيها يكون أحط منزلة من الآخر؟
أما هوايتهد فخلاصة الراي عنده هي أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوطه العنصرية، وكلما صفا الجنس عنصرا ولم تدخله أخلاط من الخارج، كان أقرب إلى الانحلال، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة ترد هنا وهناك في محاوراته، وأقرب الأمثلة لذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي الليلة الحادية والعشرين من هذه المحاورات، يتعرض هوايتهد لهذه الفكرة، ثم يمضي في حديثه ليقول إن وراء هذه الفكرة فكرة أعوص، وهي كيف نصون المجتمع من الركود؛ فقد ترى جماعة من الناس سارت في حضارتها سيرا هينا لينا بضعة قرون، لكنها صائرة إلى موت محقق إذا أعوزها عنصر الجدة يدخل في كيانها فيضمن لها الاستمرار في التقدم، وأحسب أن النمل والنحل مثلان جيدان لأنظمة تسير سيرا حسنا، لكنه لا يتغير، ولو قدر لجماعة من الناس أن تقفل على نفسها لانتهت إلى حالة لا تتميز مرتبة من عالم النمل والنحل، ذلك لو فرضنا أنها ستظفر من دقة النظام بأكمل درجاتها.
لكن هوايتهد كثيرا ما يتعرض للموازنة بين ثقافتين؛ السامية من جهة، والهلينية من جهة أخرى - أي الشرق الأوسط والغرب - فيضع إصبعه على فوارق أساسية، وتشم من كلامه دائما أنه يفضل الثانية على الأولى، ومن أهم ما يهتم له في ذلك هو ما يتسم به الأولون - الساميون - من جهامة وصرامة، وما يتسم به الآخرون - ورثة الثقافة اليونانية - من روح فكهة متبسطة حرة.
وهو يتخذ التوراة مرآة تصور الأولين، والإلياذة مرآة تصور الآخرين؛ ففي التوراة تنعدم روح الفكاهة وتسود الجهامة، وتفسير ذلك عنده هو أن اليهود الأقدمين كانوا دائما في حالة من اليأس والهزيمة والتشريد، بعكس اليونان فإنهم كانوا يشعرون شعور المرح النشوان، فإله التوراة جاد لا يضحك ولا يهزل، وليس من حق الأفراد أن يقرءوا التوراة لتعجبهم فيأخذوا بتعاليمها، أو لا تعجبهم فيتركوها، بل الأمر أخطر من مثل هذه الحرية الفردية في الاختيار، فهي مبادئ لا بد أن تأخذ بها كرهت أو رضيت. وأما الإلياذة فتجعل آلهتها يضحكون ويمرحون، وللقارئ أن يتلوها ليأخذ ما يأخذه ويرفض ما يرفضه، فلئن كان الهدف في التوراة هو التوجيه والإرشاد والهداية والتقويم، فالهدف في الإلياذة هو المتعة والنشوة، فالفرق بينهما هو الفرق بين المعلم والفنان.
وأما أبو حيان التوحيدي فيقف كعادته وقفة تحليلية يذكر بها جوانب الأمر كلها، فليس لأمة واحدة فضيلة تخلو من نقص، ولا نقص يخلو من فضيلة، وأكاد أقول إن التوحيدي لو سئل: أي الحالات تبلغ الكمال؟ لقال - كما قال هوايتهد - هي الحالة التي تندمج فيها الشعوب كلها لتلتقي الفضائل كلها في شعب واحد. يقول أبو حيان (في الليلة السادسة من الإمتاع والمؤانسة): «... لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، ويقضي هذا بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ... فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان ...» ويمضي التوحيدي في حديثه محللا، فيحذر من أن تفهم خاصية الشعب على أنها شاملة لكل أفراده، بل هي مأخوذة على سبيل التعميم والشيوع، ولو شاء القارئ أن يطالع عرضه البديع، فلا مناص من الرجوع إلى حديث تلك الليلة كما ورد في الكتاب المذكور.
ويلاحظ أن الموازنة بين الروم والعرب عند أبي حيان هي نفسها الموازنة بين الهلينيين والساميين التي جذبت اهتمام هوايتهد، ولو أنعمت النظر إلى قول أبي حيان إن الروم يتميزون بالعلم والحكمة، وأما العرب فيتميزون بالنجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان، وجدت أن الفرق بينهما من وجهة نظره هو الفرق بين أهل التفكير النظري وأهل الأخلاق العملية، وكذلك هو الفرق بين العقل من ناحية والوجدان من ناحية أخرى، وهو فرق لا يتعارض مع ملاحظات هوايتهد عن هاتين الجماعتين، غير أن هوايتهد يضيف فرقا آخر، وذلك بأن جعل الروم (اليونان) أهل مرح وتفاؤل وسماحة نفس، على حين جعل الساميين أهل تزمت وجهامة عابسة.
وكما يزهي هوايتهد بهلينيته، لا يفوت أبا حيان - بعد أن ينظر نظرة الإنصاف إلى شتى الأمم والشعوب - لا يفوته أن يزهي بعروبته، فيقول عن العرب: «إنهم مع توحشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون؛ فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق ... ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر، لم يتعدوا عن شأو من تقدم بآلاف السنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبروا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا. وهذا الحكم ظاهر معروف وحاضر مكشوف، ليس إلى مرده سبيل، ولا لجاحده ومنكره دليل.»
ألا إن هذه الأحاديث القليلة التي سجلتها لنا الصحائف أحرفا مطبوعة، لتزداد قيمتها أضعافا مضاعفة في عصرنا هذا الذي حل فيه الصمت المستمع محل الحديث الحي المتبادل، أو لعلنا على كل حال في طريقنا إلى هذه النهاية المحتومة؛ فالتليفزيون يتسلل إلى الدور، وقد سبقه أخوه الراديو، حيث أصبح على الأصدقاء المجتمعين أن ينصتوا لما يجيء إليهم مرتقبا أو غير مرتقب؛ ففي ساعات العمل آلة تعمل، والعامل مراقب لها في صمت، وفي ساعات الفراغ آلة تحدث والناس حولها يستمعون في صمت ... ترى أيكون زمان الحديث الحي الطلي قد ولى؟ إذن فقد أضاعت الإنسانية على نفسها أمتع وسائل التعبير.
Bog aan la aqoon
لقد شهد هوايتهد في مواضع كثيرة بما هو مدين به في حياته الفكرية لمحاوراته مع أصدقائه؛ فمما قاله في ذلك أن الشطر الأعظم من نموه العقلي قد جاءه من جيد الحديث، وكثيرا ما أسعفه الحظ في أن يهيئ له المحدث الممتاز، وكذلك يقول في موضع آخر بأنه يؤمن إيمانا شديدا بقيمة المحاورة والمحادثة في التثقيف، حتى ليعترف بأن ما كسبه منها لا يقل عما كسبه من الكتب، وفي هذا الكتاب الذي نقدمه للقراء صورة لهذا المحدث البارع في حديثه المنساب، في بيته وبين أصدقائه. •••
ولد ألفرد نورث هوايتهد في الخامس عشر من فبراير عام 1861م، في مدينة رامزجيت من مقاطعة كنت في إنجلترا، من أسرة اشتغل معظم أفرادها بأعمال تتصل بالتربية وبالكنيسة وبالإدارة المحلية، فكان جده ناظرا لمدرسة خاصة في رامزجيت، ثم جاء أبوه فخلف جده في منصبه ذاك، غير أن أباه قد تحول فيما بعد إلى المناصب الكنسية. ويقول ألفرد هوايتهد عن أبيه إنه لم يكن عميق الثقافة بقدر ما كان قوي الشخصية، فكان كبير الأساقفة في وقته قد صادقه صداقة جعلته ينفق معه ساعات طويلة إبان أشهر الصيف التي كان يقضيها في منطقة هوايتهد الوالد، وكانا يتحدثان أحاديث طويلة تمثل - كما يقول ألفرد هوايتهد - القرن الثامن عشر في أنصع جوانبه، وقد أخذت ثقافة ذلك القرن عندئذ تختفي رويدا رويدا لتحل محلها ثقافة القرن التالي - القرن التاسع عشر - وكان الغلام يستمع إلى تلك الأحاديث، فكان بهذا يشهد - كما يقول - تاريخ إنجلترا نابضا حيا في أشخاص جده وأبيه وأصدقائهما، وكان يشهد تاريخ بلاده حيا في هؤلاء الرجال بوعيه الباطن لا بعقله الظاهر، حتى لقد وجد نفسه في أيام نضجه يفهم ثقافة بلاده عن طريق ما كان قد سمعه ورآه في هؤلاء الرجال.
وكذلك شهد في صباه تاريخ بلاده قائما في آثار كثيرة تحيط بمسقط رأسه رامزجيت، فعلى بعد ستة عشر ميلا تقع كاتدرائية كانتربري بجلالها وبما تحوي من ذكريات التاريخ، وفي جوار بلده تقوم قلعة رتشبره التي بناها الرومان، وهنالك ترى شاطئ البحر في نفس الموضع الذي نزل فيه السكسون، والذي نزل فيه أوغسطين، وعلى مسافة ميل واحد تقع كنيسة الدير محتفظة بلمسات من العمارة الرومانية، لكن تغلب عليها العمارة النورمندية، وها هنا ألقى القديس أوغسطين أولى مواعظه الدينية (كان البابا جريجوري الكبير قد أوفد القديس أوغسطين للتبشير بالمسيحية في بريطانيا)، وهكذا كان الصبي يتنفس في بيئته الأولى أنفاسا تفوح بعطر الماضي التليد، حتى لقد كان يضيق صدرا - لما كبر - بملاعب «الجولف» في ذلك المكان؛ لأنه كان يرى تلك الملاعب نهاية رخيصة لقصة مجيدة.
وجاءت تربية هوايتهد كلاسية الطابع على غرار ما كان سائدا في القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ اللاتينية وهو في العاشرة، وبدأ اليونانية وهو في الثانية عشرة، فلو استثنيت أيام العطلة الدراسية، ألفيت فتانا لا يفوت يوما واحدا - حتى انتصف العام العشرون من عمره - دون أن يقرأ بضع صفحات من تراث اللاتين واليونان، يقرؤها قراءة الدارس المتفحص نحوا وصرفا ومعنى، وعن طريق دراسته لتلك النصوص صاحب رجال الفكر الأقدمين مصاحبة تركت في نفسه أثرها إلى آخر حياته الفكرية.
وتخلل دراسته الكلاسية دروس الرياضة، حتى لقد أعفي في المدرسة من بعض الدراسات القديمة لينفق في الرياضة وقتا أطول؛ وذلك لما أبداه من استعداد واضح في هذا الاتجاه، انتهى به إلى أن يجعل الرياضة موضوع تخصصه وهو في الجامعة، على أنه لم يكتف في دراسته الثانوية بما كانت تقتضيه الواجبات الرسمية، بل رأى نفسه مشغوفا بالشعر، فراح يقرأ للشعراء في أوقات فراغه، لا سيما «وردزورث» و«شلي».
ودخل جامعة كمبردج في خريف 1880م، وهو يعترف بما هو مدين به لهذه الجامعة في تكوينه الثقافي اعترافا يقول فيه إنه لا سبيل إلى الإسراف في وصف ذلك الدين، الذي لم يرجع فقط لما تلقاه في قاعات الدرس، بل جاوز تلك القاعات إلى ما كان هناك من تدريب اجتماعي وعقلي معا؛ فأما قاعات الدرس فكان التعليم فيها يلتزم نطاق التخصص في أضيق حدوده، وكانت الرياضة مادة تخصصه، فدرسها على أساتذة أكفاء حتى ألم بجانبيها، البحت والتطبيقي، لكنه لم يستمع إلى درس واحد - خلال سنوات الجامعة الأربع - فيما لا يمس الرياضة مسا مباشرا، لكن المحاضرات لم تكن في جامعة كمبردج إلا جانبا واحدا من تربية الطالب، فكان هناك مصدر آخر بالغ الخصوبة بعيد الأثر في تكوين أبناء الجامعة، ألا وهو حلقات النقاش التي لم تنقطع بين الطلاب والأساتذة؛ ففي كل مساء كان العشاء يقدم للطلاب في نحو السادسة أو السابعة، وبعد الفراغ منه، يتحلق الطلاب بعضهم مع بعض، أو مع من شاءوا من أساتذتهم، حلقات، حلقات، يناقشون فيها ما طاب لهم أن يناقشوه حتى ساعة متأخرة من الليل.
لم تكن جماعات الأصدقاء تربطها وحدة التخصص في الدراسة؛ إذ كانت الموضوعات التي تناقش في اجتماعاتهم الخاصة تتناول كل شيء، السياسة والدين والفلسفة والأدب، فكان هذا التنوع حافزا على تنوع القراءة. ويسوق لنا هوايتهد نفسه في ذلك مثلا، فيقول إنه وهو المتخصص في الرياضة كاد يحفظ أجزاء من كتاب «نقد العقل الخالص» لكانط عن ظهر قلب، ويضيف إلى ذلك قوله: «لقد نسيته الآن؛ لأن سحر كانط قد زال عني وشيكا، وأما هيجل فلم أستطع قط قراءته، فقد بدأت دراسته بالنظر في ملاحظاته التي أبداها عن الرياضة، فأدهشني أن أجدها كلها هراء في هراء.»
ويمضي هوايتهد وهو يروي عن قصة حياته في إيجاز مختصر (راجع كتابه: مقالات في العلم والفلسفة) فيقول: «إنني إذ أرجع ببصري أكثر من نصف قرن [كتب هذا سنة 1941م] أرى تلك الأحاديث التي كانت تدور بيننا ونحن في كمبردج قريبة الشبه بالمحاورات الأفلاطونية ... وهكذا كانت تعلم كمبردج أبناءها، فهي تجري على المنهج الأفلاطوني ... إن أفلاطون لو شهدنا في كمبردج نمزج بين تخصص في الرياضة ومناقشات حرة تدور بين الأصدقاء لأبدى رضاه.»
فرغ هوايتهد من دراسته الجامعية سنة 1885م، فعين في نفس الجامعة مدرسا، حتى كان عام 1910م استقال من منصبه ذاك لينتقل إلى لندن.
وفي ديسمبر من عام 1890م تزوج فيلسوفنا من زوجته التي تراها بارزة الأثر في المحاورات التي نقدمها إليك اليوم، وعنها يقول: «إن أثر زوجتي في تشكيل وجهة نظري إلى العالم كان من العمق بحيث لا يجوز إغفاله، فهو أحد العوامل الجوهرية في إنتاجي الفلسفي.» فلقد نشأت في محيط يختلف كل الاختلاف عن المحيط الذي نشأ فيه زوجها؛ فهي من أسرة يكثر بين أفرادها العسكريون والساسة، وهو من أسرة يكثر بين أفرادها المعلمون والقساوسة، يقول الزوج عن زوجته: «إن حياتها الناصعة قد علمتني أن الجمال بشطريه، الخلقي والفني، هو الغاية من الوجود، وأن وسائل بلوغه هي الرحمة والحب والنشوة الفنية. وأما المنطق والعلم فيقتصران على أن يكشفا لنا عما هو ذو صلة بالموضوع الذي نكون بصدد بحثه، كما يعاوناننا على اجتناب ما ليس ذا صلة بذلك الموضوع. وعندي أن هذه النظرة تنقل ما قد ألفناه من اهتمام فلسفي بالماضي؛ إذ توجه التفاتنا إلى الفترات التي ازدهر فيها الفن والأدب، باعتبارهما أفضل أداة تعبر عن القيم الجوهرية في الحياة، إلا أن بلوغ الإنسان أعلى ذروة يستطيع الإنسان بلوغها، ليس مرهونا بنشوء مذهب عقلي متسق البناء (وهو ما يقدمه لنا العلم والمنطق معا) على الرغم من أن اتساق الفكر قد أدى واجبا خطيرا في نشأة الحضارة.»
Bog aan la aqoon
وأنجب ذلك الزواج ثلاثة أبناء، اشتركوا جميعا في الحرب العالمية الأولى؛ أما الابن الأكبر فقد اشترك في الحرب من أولها إلى آخرها، وأما الابنة وهي الوسطى فقد خدمت في وزارة الخارجية، وأما الابن الثالث فقد كان طيارا وأصيبت طائرته في سماء فرنسا فقتل في مارس 1918م. وأنا أذكر هذه الحقيقة الأخيرة لأن حزن الوالد على ولده قد أدى إلى تغيير وجهة نظره الفلسفية بعض الشيء؛ مما يدل على أن فلسفة الرجل وليدة ظروفه، مهما بلغ من تدريب على التفكير الرياضي العلمي الموضوعي الذي يتجرد عن النفس ونوازعها.
وكان أول مؤلفات هوايتهد العلمية كتابه «رسالة في الجبر العام»، فاختير بسبب هذا الكتاب عضوا في الجمعية الملكية سنة 1903م، وأما عمله الفلسفي فلم يبدأ إلا بعد ذلك بزمن طويل؛ وعلى أساسه اختير عضوا سنة 1931م زميلا في الأكاديمية البريطانية.
وحدث في سنة 1903م أيضا أن نشر برتراند رسل كتابه «أصول الرياضة» على أن يكون الجزء الأول يتلوه جزء ثان، كما كان كتاب هوايتهد في الجبر جزءا أول يتلوه جزء ثان؛ فاستكشف الرجلان، هوايتهد ورسل، أن الجزء الثاني المعتزم صدوره عن كل منهما يتناول موضوعات هي هي بعينها، فاتفقا على أداء عمل مشترك، وحسبا أن عاما واحدا يكفيهما لإخراج ما تصديا لإخراجه، لكن أفق الموضوع أخذ يتسع أمام ناظريهما، فاستغرقا ثماني سنوات أو تسعا يعملان معا، حتى أخرجا كتابهما «أسس الرياضة» (برنكبيا ماثماتكا). وكان رسل قد التحق بجامعة كمبردج في العشار الأخير من القرن الماضي؛ أي بعد أن دخلها هوايتهد بعشر سنوات أو نحوها، وارتبط الرجلان بروابط الصداقة الوثيقة، وفي هذا يقول هوايتهد: «لقد نعمنا كما نعم العالم كله بألمعية رسل، تلميذا أولا فزميلا ثانيا، ثم صديقا آخر الأمر، فكان عاملا قويا في حياتنا إبان مقامنا في كمبردج، لكن وجهة النظر الأساسية - فلسفية واجتماعية - قد تفرقت بيننا، فتفرقت تبعا لذلك اهتماماتنا، وكان ذلك خاتمة طبيعية للتعاون معا على عمل واحد.»
قلنا إن هوايتهد ترك منصبه في كمبردج عام 1910م، وانتقل إلى لندن، وفي السنة الأولى من مقامه هناك أخرج كتابه «مدخل إلى الرياضة»، ولبث هوايتهد في الكلية الجامعة (بجامعة لندن) حتى سنة 1914م، وعندئذ ظفر بالأستاذية في الكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا (بجامعة لندن أيضا)، وفي أواخر تلك الفترة عين عميدا لكلية العلوم بالجامعة، ورئيسا للمجلس الأكاديمي الذي كانت مهمته رسم خطة التعليم لمدينة لندن، كما عين عضوا في مجلس الجامعة، وغير ذلك من جمعيات ولجان لا عدد لها، ولقد كان اشتراكه في النشاط التربوي على هذا النطاق الواسع، موجها لاهتمامه نحو مشكلة التعليم العالي في الحضارة الصناعية الحديثة، فقد كان المبدأ المأخوذ به - ولا يزال قائما في بلاد كثيرة - هو أن مهمة الجامعات مقصورة على مجالات التخصص الأكاديمي، وهي تؤدي مهمتها تلك على أنماط مختلفة؛ فمنها النمط الذي رسمته جامعتا أكسفورد وكمبردج، ومنها النمط الذي رسمته جامعات ألمانيا. أما إذا جددت جامعات في التعليم الجامعي، فخلقت نمطا آخر - كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية التي وسعت من نشاط الجامعة حتى جعلته يتناول كل صنوف الإعداد للحياة العملية - فكان ذلك ينظر إليه بعين المزدري، وكان معنى هذا أن الدراسة الجامعية تصب أكثر اهتمامها على الماضي، ولا تدير بصرها إلى مشكلات تربوية خلقتها الحضارة الصناعية المحيطة بها، فلم يدخل في حساب الجامعات أبدا أن هناك ملايين الصناع الذين يتوقون إلى استنارة عقلية في رحاب الجامعات، وملايين الشباب من كل صوب يطلبون حظهم من المعرفة العليا.
فكان أن حاولت جامعة لندن في عهد هوايتهد مواجهة الظروف الناشئة، بأن ضمت في نطاقها معاهد كثيرة تتنوع أنماطها، يؤدي كل نمط منها ما يراد له أن يؤديه فتتحقق الأغراض جميعا.
وأما مؤلفاته التي أصدرها إبان مقامه في لندن (1910-1924م)، فأولها هو الذي أسلفنا ذكره «مدخل إلى الرياضة» (1910م)، وتلاه «تنظيم الفكر» (1916م)، ثم «بحث في أصول المعرفة الطبيعية» (1919م)، و«فكرتنا عن الطبيعة» (1920م)، و«أصول النسبية مع تطبيقات على علم الفيزياء» (1922م).
وفي 1924م - وكان عمره ثلاثة وستين عاما - تلقى دعوة من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة ليكون أستاذا للفلسفة بها، وهناك أخرج أهم كتبه الفلسفية على الإطلاق؛ فأخرج «العلم والعالم الحديث» (1925م)، و«الدين في طور التكوين» (1926م)، و«المنهج الرمزي: معناه وأثره» (1927م)، و«أهداف التربية» (1928م) - وقد ترجم إلى العربية هذا الكتاب الأستاذان قدري لطفي ومحمد بدران - و«التطور وعالم الواقع» (1929م)، و«مهمة العقل» (1929م)، و«مغامرات أفكار» (1933م) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية الأستاذ أنيس زكي حسن - و«الطبيعة والحياة» (1934م)، و«صنوف الفكر» (1938م)، و«مقالات في العلم والفلسفة» (1947م).
ومات ألفرد نورث هوايتهد في الثلاثين من ديسمبر سنة 1947م، بالغا من عمره سبعة وثمانين عاما.
وكتبت زوجته في وصف موته تقول:
في يوم عيد الميلاد اجتمعت الأسرة كمألوف عادتها، وفي اليوم التالي لم يكن «ألفرد» مكتمل العافية، وفي ذلك اليوم نزلت به النازلة، ورأيتها وهي تنزل به، فقد رفع يده اليسرى وتركها لتسقط؛ كي ينبئني أنه يدري ما حدث، فقد سار الشلل عندئذ نصف طريقه، وأدركت أن النهاية لم تكن بعيدة الوقوع.
Bog aan la aqoon
وهنا قد يطفر إلى الذهن ما قاله «فيدون» ل «أشقراط» وهو يقص عليه قصة سقراط في سجنه ويصف له كيف ختم الأجل: «هكذا يا أشقراط قضى صديقنا الذي أقول عنه بحق إنه أحكم من قد عرفت من الناس، وأعدلهم وأكثرهم فضلا.» •••
بدأ هوايتهد حياته العلمية رياضيا من الطراز الأول، وعالما من علماء الطبيعة؛ ولذلك جاءت أولى محاولاته الفلسفية الكبرى متأثرة بتلك الدراسة الأولى، وذلك حين تعاون مع رسل - كما أشرنا - في إخراج مؤلف ضخم في منطق الرياضة يعد بداية عهد جديد في الدراسة المنطقية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن لهذا المؤلف - وأعني به «أسس الرياضة» - أبعد الأثر وأعمقه في توجيه تيار الفكر الفلسفي كله في هذه العشرات الخمس الأخيرة من أعوام القرن العشرين؛ إذ وجه ذلك الفكر الفلسفي نحو التحليل على نموذج ما ورد في «أسس الرياضة» من تحليلات ولو جعلنا للفلسفة المعاصرة صفة واحدة غالبة لقلنا إنها الانتقال من «التأمل» الميتافيزيقي إلى «تحليل» القضايا العلمية، وكان من أئمة هذا التحول في تاريخ الفلسفة المعاصرة فيلسوفنا هوايتهد.
وأهم ما يطبع فلسفة هوايتهد هو رأيه بأن الجانب الهام من حقيقة الشيء - ومن حقيقة العالم بصفة عامة - هو بنيته؛ أي هو شبكة العلاقات الرياضية التي تكون له بمثابة الإطار الذي ينبني عليه وفي حدوده، وليس الجانب الهام هو المضمون الكيفي - الذي يملأ ذلك الإطار - فلو تناولت شيئا ما وفككت أجزاءه وأبطلت بنيته، لفسد الشيء ولم يعد هو هو، برغم احتفاظ الأجزاء بالمضمونات الكيفية؛ لأن قوام الشيء هو - كما قلنا - في العلاقات الرابطة بين أجزائه.
ومن هذا نفهم لماذا سميت فلسفة هوايتهد فلسفة البناء العضوي؛ فكل شيء، وكل واقعة، وكل موقف، هو في الحقيقة بناء ذو هيكل معين، ولو تغير هيكله لأصبح شيئا آخر، فالأمر في أي شيء هو كالأمر في الكائن العضوي من أنه ليس كومة من خلايا أو مجموعة من أعضاء اجتمعت كما اتفق، بل هو فوق ذلك «تركيبة» معينة أو «بنية» خاصة تنتظم بها الأجزاء في شبكة معينة من علاقات، وما قلته عن كل شيء على حدة ، تقوله عن الوجود بأسره.
غير أن هذه العلاقة الشبكية التي تمسك بأطراف الوجود فتجعله ذا بنية معلومة، لا تقتضي أن يظل الوجود على حالة واحدة لا يتغير ولا يتطور، بل إن العالم لفي تغير دائب دائم، تغيرا يحتفظ فيه بذاتيته، بفضل عملية يطلق عليها هوايتهد اسم «التشرب».
فهو يرى أن الشيء - أو الوجود بأسره - يشرب ماضيه شربا يسري في كيانه كله، ثم يسقيه إلى ما سيتلوه في مراحل تاريخه، فعلى الرغم من أن كل كائن هو فريد في ذاته وصفاته، إلا أنه في الوقت نفسه حلقة في سلسلة ممتدة، ورثت سالف الحلقات، وستورث خصائصها المتجمعة فيها لما سيجيء بعدها من حلقات، وهكذا يشعر الفرد الواحد - في مجرى خبرته الحية - بشعورين في وقت واحد؛ يشعر بفرديته التي يتفرد بها، ثم يشعر بأنه رغم فرديته جزء من كل واحد، هو الوجود.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا، حتى إن تصورنا التغير الدائب في الأشياء التي تدركها، لكن هوايتهد يجعل التغير شاملا للذات وللأشياء معا، فلا ينفك ما حولنا يتغير، كذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا تظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة، فكذلك الذات المدركة لا تثبت على حالة إدراكية واحدة لحظتين متتابعتين. كان هرقليطس - وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط - يذهب مذهب التغير في الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون قد أصبح نهرا آخر؛ فليس الماء هو نفسه الذي كان أول مرة، وجاء هوايتهد فوسع من المبدأ نفسه بحيث شمل الذات أيضا، حتى ليصح أن يقال عنها عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين» أو «إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين»؛ لأنك في كل لحظة تتغير ذاتا بتغير موضوع إدراكك، وهكذا يكون العالم كله - ذاتا وموضوعا - جديدا أبدا، لا يدوم على حالة واحدة لحظتين متتابعتين.
لكن الشيء إذا تغير تغيرا لا يقف تياره، فهو إنما يفعل ذلك باطراحه لصفات، واكتسابه لصفات جديدة، هذا بديهي؛ إذ لو دامت للشيء صفاته لما طرأ عليه تغير، فلنا أن نسأل: ومن أين للشيء المتغير صفاته الجديدة التي بها يتغير؟ إن تفسير ذلك محال إلا إذا افترضنا وجود تلك الصفات بالإمكان لا بالفعل، لا بد أن يكون هناك عالم الممكنات إلى جانب هذا العالم الفعلي؛ لكي يتسنى للكائنات الفعلية أن تلبس من عالم الممكنات ثوبا، وتخلع ثوبا خلال سيرها وتطورها.
أفيكون هوايتهد - إذن - أفلاطونيا صريحا، يفرض عالمين، عالم المثل - أو إن شئت فقل عالم الإمكان - من جهة، وعالم الموجودات الفعلية من جهة أخرى؟ عندما ذهب إليه بعض الشراح لفلسفة هوايتهد، لكننا نفضل على هذا الشرح شرحا آخر يفاضل بين هوايتهد وأفلاطون، وهو أن عالم الإمكان عند هوايتهد عالم رياضي صرف؛ أي أنه عالم من علاقات صرفة، ليس يملؤها مضمون كيفي، شأنه في ذلك شأن الصيغ الرياضية التي نراها في قوانين الطبيعة كقانون الجاذبية - مثلا - أو قانون الغازات، فالصيغة الرياضية في كل من هذه الحالات تصور عالم الإمكان، الذي يجيء الواقع الفعلي على غراره، دون أن يكون في الصيغة الرياضية إلا شبكة العلاقات الصورية خلوا من مضمونها الكيفي، هذا هو ما يريده هوايتهد بعالم الإمكان الذي يستمد منه الواقع صوره التي ما تنفك تتغير مضمونا، وأما المثل عند أفلاطون فهي لا تكتفي بمجرد الصيغة الرياضية، بل إنها لتبث فيها كذلك حشوها الكيفي، «فالبياض» مثلا مثال من المثل الأفلاطونية، مع أنه كيفي الطابع، وأما عند هوايتهد فالكيف لا يكون في عالم الإمكان الأزلي الأبدي الذي يقرر وجوده.
تلك لمحة موجزة سريعة، قد تفيد قارئ هذا الكتاب في إلقاء الضوء على بعض ما قد ورد خلال المحاورات من آراء. •••
Bog aan la aqoon
أما بعد، فإن لي مع كتاب «محاورات هوايتهد» لقصة طريفة أرويها في ختام هذه المقدمة: كنت أستاذا زائرا بجامعة أمريكية في ولاية واشنطن، وهي في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة، في العام الدراسي 1953-1954م، وفي ربيع عام 1954م نشرت مجلة «آتلانتك» الأدبية فصولا عن هوايتهد توطئة لإصدار كتابه هذا، فتابعت هذه الفصول، ولفت نظري في أحدها رأي غريب عن المسيح؛ إذ يقول عنه إنه يتصف بسماحة النفس التي لا نعرفها في أبناء البلاد التي ظهر فيها، ونعرفها في اليونان، وإذن فالأرجح أن يكون المسيح من عنصر هليني كان قد انتقل إلى الموطن الذي ظهر فيه ...
عجبت لهذا الخطأ المنطقي المنهجي يقع فيه علم من أعلام المنطق والتفكير الرياضي الصارم؛ لأن أبجدية المنطق السليم في النظرة العلمية هي أن نبني النظرية على أساس الواقع، لا أن نحور في الواقع حتى يتفق مع النظرية؛ فإذا كان الفرض النظري عند هوايتهد هو أن أهل الشرق الأوسط لا يعرفون سماحة النفس، كما عرفت هذه الصفة عند اليونان، ثم وجد نبي التسامح يظهر بينهم، فالأدنى إلى الصواب أن يغير من نظريته حتى تتفق مع الواقع المشهود - والواقع هنا هو ظهور المسيح في الشرق الأوسط - لا أن يحتفظ بنظريته كما توهمها ثم يلف الواقع لفا تتحقق به نظريته المزعومة.
وبعد قراءة هذا المقال في المجلة، جاء موعد محاضرتي - وكان دائما من الحاضرين عدد كبير من الأساتذة - فبدل أن أحاضرهم في الموضوع الذي أدير حوله محاضراتي، وهو الفلسفة الإسلامية، فاجأتهم بأن أجعل موضوع المحاضرة تعليقا على هذه النبذة التي وردت في المقال المذكور.
ومضت الأيام، وجاء يوم الأربعاء 26 من مايو سنة 1954م، وهو اليوم الذي ألقيت فيه آخر محاضراتي في تلك الجامعة، فماذا حدث؟ ها أنا ذا أنقل إليك أسطرا من مذكراتي اليومية: «... بعد أن
- بما فيها من طلبة ومستمعين - إلى حفلة صغيرة أعدوها توديعا، بمناسبة انتهاء الشوط الدراسي، وهناك قام الدكتور «ه» أستاذ الأدب الإنجليزي - وقد حضر لي جميع محاضراتي بغير تخلف - فألقى كلمة تقدير اهتزت لها نفسي، ثم قدم إلي هدية كتاب «محاورات ألفرد نورث هوايتهد» الذي صدر هذا الأسبوع، وقد وقع الحاضرون على غلافه من الداخل، بعد أن كتب نيابة عنهم الدكتور «ه» عبارة على الغلاف، سأعتز بها ما حييت ... هذا نصها:
إلى الأستاذ زكي نجيب محمود
إننا نقدم إليك هذا تقديرا عميقا لمحاضراتك الوضاءة التي ألقيتها علينا في الفكر العربي، فبرغم أنك تحدثت إلينا بلغتنا، وهي لغة تختلف عن لغتك اختلافا بعيدا ، فقد بهرتنا أبدا، وسحرتنا بهذه السيطرة الجميلة التي سيطرت بها على اللغة الإنجليزية، في كل لفتة من لطائف لفتاتها، وفي كل موضع من مواضع سياقها.
اللهم اجعل الشمس والغيث لك مددا، فيثمران لك ثمرا موصولا من رصانة الحكمة وخصوبة الحياة.
ثم شاء الله لقصتي مع هذا الكتاب الرائع أن تنتهي بفصل مشرق بهيج، وهو أن يتولى ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية شقيقي الأستاذ محمود محمود، الذي مهما اقتضت صلتي به أن أقتصد في عبارة التقدير، فلن يمنعني ذلك من القول بأن الترجمة قد جاءت للأصل البديع صنوا بديعا.
زكي نجيب محمود
Bog aan la aqoon
الجيزة في 27 يناير 1961م
... عن هذا المصدر أخذنا الفلسفة،
وإن الآلهة لم - ولن - تقدم خيرا أعظم منه للإنسان الفاني.
أفلاطون - تيماوس ... هذا المكان مقدس، في جميع مظاهره،
يكسوه الغار والزيتون والكرم،
وفي قلبه تشدو فرقة مريشة من طيور العندليب،
فاجلس هنا، فوق هذا الصخر الأصم.
سوفوكليس: أوديب عند كولونس
فاتحة
يزخر القرن الذي يقع بين عامي 1850م و1950م بمجموعة من السير يعجز عن ابتكارها أي كاتب من كتاب القصص الخيالية، وهذه الوفرة البالغة من مختلف الشخصيات ترتبط عادة برجال العمل، ولكنها يمكن كذلك أن ترتبط برجال الفكر، بل لقد كانت ثورة الفكر في القرن الماضي أشد عنفا. أي روائي يستطيع أن يتخيل سيرة تبلغ ما بلغت سيرة هوايتهد من تشابك بعصر أشد تفجرا من العصر الذي عاش فيه؟ هل يستطيع ذلك أنتوني ترولوب؟ ربما استطاع ترولوب أن يرسم البداية؛ لأن القصة تبدأ بشخصية إنجليزية، ولكن عندما تغادر هذه الشخصية بيئة كاتدرائية كانتربري وتيت - رئيس الأساقفة - الذي اعتاد أن يذهب إلى أبرشية القديس بطرس لتناول العشاء مساء كل يوم من أيام الآحاد، يقصر خيال ترولوب - كما يقصر عقله - عن مجاراتها، وكأن ترولوب نفسه كان يدرك ذلك حين قال:
Bog aan la aqoon
ينبغي أن يكون الأدب قابلا للتصديق إلى حد كبير، في حين أن خبرات البشر في الواقع تفوق كل قوى الخيال؛ ومن ثم كان «الأدب الاجتماعي» مطابقا للعرف، بينما يتخطى التاريخ «كل حدود العقل».
وتقع حياة هوايتهد في ثلاثة مجلدات، يشمل المجلد الأول جامعة كامبردج، ويشمل الثاني لندن، والثالث كامبردج في ماساشوست. وقد قال أيضا إنه يحس كأنه عاش ثلاث حيوات في ثلاث فترات متتابعة؛ الأولى من عام 1861م إلى عام 1914م، والثانية خلال الحرب من عام 1914م إلى عام 1918م، والثالثة بعد هذه الحرب العالمية الأولى.
وتبدأ قصة «المدن الثلاث»
1
هذه بداية هادئة؛ فهو ابن أستاذ مدرس وحفيد أستاذ مدرس كذلك؛ ثم أصبح أبوه قسيسا فيما بعد، وفي حياته كقسيس كان يتقيد بنصوص العهد القديم، خطبه ومواعظه يرن صداها تحت قبة كنيسة نورمان، والمنظر كله آية في الروعة؛ رامزجيت التي تواجه البحار الضيقة بين إنجلترا والقارة الأوروبية، تلك البحار الضيقة التي تولدت عنها كل الحكومات الحرة في العالم، هولندا وإنجلترا والولايات المتحدة، وقد كان «الآباء المهاجرون» من أبناء هذه البحار. وعلى مقربة منها تقع تلك الأسوار العابسة، أسوار قلعة رتشبره، التي شيدها الرومان. وعلى بعد ميل من ساحل إبزفليت، حيث رسا السكسون في غابر الزمان، يقع المكان الذي ألقى عنده أوغسطين أولى مواعظه. وعلى بعد ستة عشر ميلا فقط تقع كاتدرائية كانتربري، حيث كان يستطيع الطفل الصغير منذ تسعين عاما - ولا يزال يستطيع حتى اليوم - أن يشهد البقعة التي قتل عندها توماس بكت، ويرى العدة الحربية التي كان يدرعها «الأمير الأسود». إن التاريخ لهذا الصبي لم يكن شيئا يتعلمه من الكتب، بل كان شيئا يحتك به كل يوم، تكتحل به عيناه ويستنشقه مع الهواء.
ومع أن هوايتهد كان يعد نفسه دائما إنجيليا شرقيا، ومع أن صورته كانت مثالا لذلك - إذ كان أشقر اللون، أحمر الوجنتين، أزرق العينين - إلا أنه كان يلحظ في تاريخ أرومته خلطا خفيفا يجعله مخالفا بعض الشيء لهؤلاء الإنجيليين؛ فقد كانت إحدى جداته من ويلز، تنتمي إلى أسرة وليامز، وكان يختلف عن إخوته اختلافا يرجع إلى الدم الكلتي الذي كان ينبض في عروقه.
ولد في الخامس عشر من شهر فبراير من عام 1861م، وكان طفلا ضعيف البنية، فعلمه أبوه في البيت، وقضى جانبا كبيرا من وقته في الخلاء مع بستاني عجوز حمل له طوال حياته العرفان بالجميل؛ لأنه كان أول من جعله يرى النور الذي يضيء في الظلام. وفي الشتاء كان يزور جدته في لندن، وكانت أرملة لخائط عسكري، تقطن بيتا في المدينة، يحمل رقم 81 بيكادلي، ومن نوافذ هذا البيت التي كانت تطل على «الحديقة الخضراء» اعتاد أن يرى الملكة فكتوريا، وهي تمر في عربتها، وكانت آنئذ أرملة في منتصف العمر، ولم تكن محببة كثيرا إلى النفوس، وكانت جدته سيدة ثرية، بيد أنها - كما تقول - «قد أخطأت إذ أنجبت ثلاثة عشر طفلا» مما أدى إلى انخفاض نصيب كل منهم في الميراث، ولا بد أن تكون الجدة كذلك رهيبة الجانب؛ لأن المحور الذي كانت تتماسك الأسرة من حوله كان يتركز في مدبرة شئون المنزل جين وتشلو، وهي التي كانت تقرأ روايات دكنز جهرا للطفل الصغير، وهو يجلس على مقعد قليل الارتفاع متكئا على ركبتيه إلى جوار موقد النار.
ولم تكن حياته المدرسية بأقل من ذلك روعة؛ التحق بشربرن مراهقا يبلغ الخامسة عشرة من عمره إلا أربعة أشهر. وجدير بالذكر أن هذه المدرسة قد احتفلت بعيدها المائتين بعد الألف في عام 1941م، فتاريخها يرجع إلى عهد القديس أولدلم، وتزعم أن ألفرد الأكبر كان من بين تلاميذها، وما زالت مباني الدير تستعمل حتى اليوم، وبيت الرهبان به من أفخم المباني القائمة، وما برحت قبور الأمراء السكسون ماثلة للعيان. وفي خلال العامين الأخيرين في هذه المدرسة لهوايتهد كانت حجرة درسه الخاصة تشتهر بأنها كانت مأوى رئيس الرهبان، وكان الفتى يعمل على مسمع من أصوات أجراس الدير - «الأصوات الحية للقرون الغابرة» - تلك الأجراس التي أتى بها هنري الثامن من «ميدان الثوب الذهبي» وأهداها للدير.
وكان منهج الدراسة - كما ذكر هوايتهد بعد ذلك بسنوات - يسترعي ذهنه بملاءمته لمكانه وزمانه. «كنا نقرأ اللاتينية والإغريقية باعتبارهما سجلات تاريخية للشعوب الحاكمة التي كانت تقطن إلى جوار البحر وتبسط نفوذها البحري، لم نعتبرهما لغتين أجنبيتين، بل لقد كانتا مجرد لاتينية وإغريقية، ولم يكن بالإمكان أن تعرض علينا آراء لها أهميتها بأية وسيلة أخرى، فكنا نقرأ العهد الجديد بالإغريقية، ولم أسمع عن أحد قرأه بالإنجليزية في المدرسة - اللهم إلا إن كان ذلك في كنيستها، ولم يكن ذلك أمرا ذا بال - فإن ذلك معناه عقلية دينية ينقصها التهذيب. كنا متدينين، بذلك الاعتدال الذي يتصف به قوم يأخذون دينهم عن اليونانية.» ولم يذاكر هوايتهد قط الآجرومية الإنجليزية، وإنما كان يتعلمها عن طريق الآجرومية اليونانية واللاتينية.
ولم يكن الفتيان في هذه المدرسة مرهقين بالعمل؛ فقد كان يتوافر لهم الوقت للألعاب الرياضية والمطالعة الخاصة، وهي عنده الشعر، وبخاصة وردزورث وشلي، وكان يقرأ كذلك كثيرا من التاريخ، وكان رياضيا ممتازا، وأمسى أخيرا «عريفا»، واحدا من كبار الطلبة الستة المكلفين بالتبعات الإدارية، وبحفظ النظام. وأكبر هؤلاء الطلبة هو رئيس المدرسة، وبهذه الصفة دعي هوايتهد ليضرب طالبا سرق مالا «وكان لا بد من ضربه أمام التلاميذ أو طرده من المدرسة. ولا أقول إني أصبت فيما فعلت، ولكني ضربته.»
Bog aan la aqoon
وبعدما تلقى هوايتهد بذور الدراسة الكلاسيكية، تابع تنميتها بقية حياته. ولما تقدم القرن العشرون، وظهر أن كثيرا من رجال العلم ينقصهم التوازن الثقافي بدرجة مؤسفة، صار هذا التوازن المحمود عند هوايتهد بين العلم والدراسات الإنسانية مزية من مزاياه الفريدة، وشاع أن «هوايتهد يلم بالطرفين.» •••
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره التحق بجامعة كمبردج، وقد حذق الرياضة من قبل، وكانت طريقة التدريس في كمبردج في تلك الأيام أفلاطونية إلى حد كبير، والجدل حر بين الأصدقاء، فتعلم - كما يقول - من المحادثة بقدر ما تعلم من الكتب. سئل مرة كيف استطاع أن يكتب «العلم والعالم الحديث» فصلا في كل أسبوع خلال العام الدراسي، وهو يلقي في الوقت نفسه محاضراته المقررة بجامعة هارفارد؟ فأجاب «بأن كل ما في الكتاب قد نوقش في الأربعين سنة الماضية.»
وأصبح زميلا في ترنتي في عام 1885م، في سن الرابعة والعشرين الناضجة، وكلية ترنتي بكمبردج من أعظم المؤسسات التعليمية فوق الأرض، ثم كانت بعد ذلك تلك التجربة الكبرى التي وجد فيها تلك الجوهرة النادرة، وأقصد بها التواضع الحق .
في القرنين السابقين كان العالم يرتاح إلى القول بأن سير إسحق نيوتن قد كشف قوانين الكون الطبيعي النهائية، ثم حدث أمر هام، وسأحاول أن أذكر كلمات هوايتهد بنصها بقدر ما تسعفني الذاكرة.
كنا نعتقد أن كل أمر هام تقريبا في الطبيعة قد بات معروفا، ولم تبق إلا بعض النقاط القليلة الغامضة، بعض الشواذ الغريبة التي تتعلق بظاهرة الإشعاع، والتي كان علماء الطبيعة يتوقعون تفسيرها بحلول عام 1900م، وقد أمكن تفسيرها فعلا، بيد أن العلم كله خلال هذا التفسير قد تقوض، وتبددت طبيعة نيوتن التي كان يظن أنها نهاية الأرب. أجل، إن طبيعة نيوتن كانت - وما تزال - نافعة كطريقة من طرق النظر إلى الأشياء، ولكنها لم تعد صادقة باعتبارها وصفا نهائيا للحقيقة، فقد تبدد اليقين.
وما زال الأمر كذلك، ولكن كم غيره قد تعلم هذه الحقيقة؟ إن تبدد اليقين - حينما كان يظن أن اليقين لا يتعرض للهجوم - قد أثر في تفكير هوايتهد بقية أيام حياته. تبددت نهاية الأرب، ومع ذلك فقد لاحظ هوايتهد أن رجال العلم أنفسهم الذين يعرفون قصة هذا التبديد كثيرا ما يتقدمون بمستكشفات يعرضونها وكأنهم يقولون: وأخيرا بلغنا اليقين! «إن العالم فسيح، وليس هناك أعجب من ذلك الجزم القاطع الذي يوهم به الإنسان نفسه في كل عصر من عصور تاريخه، فيتوهم أن طرائق المعرفة عنده نهائية، والمؤمنون والمنكرون في ذلك سواء، والعلماء والمتشككون هم في الوقت الحاضر أكبر اليقينيين، يسمحون بالتقدم في التفاصيل، وينكرون كل تجديد في الأساس، وفي شيوع اليقينية هذا قضاء على المغامرات الفلسفية. إن العالم فسيح.»
وهكذا نبلغ ما سماه هوايتهد «مغالطة النهائية اليقينية»، وهو أقل تعاليمه شيوعا، وعندما يثار هذا المذهب في حديث أو في مطبوع للجمهور، سرعان ما يرى فيه الناس البدعة والضلال، فالمرء قد لا يعرف حقيقة ما لا يحب، ولكنه يعرف أنه لا يحبه؛ فيغضب ويزمجر كلما بدا له الشبح. •••
والمنظر الثاني هو «بيت» دكنز «المكشوف»، لم يكن بيتا خياليا، إنما هو منزل من حجر الصوان، يقع على رأس بارز في البحر عند برود ستيرز، وهو بيت مكشوف فعلا، تهتز جدرانه من تلاطم الأمواج في عواصف الشتاء، وهنا التقى ألفرد هوايتهد بأفلن ويد، وهي سليلة أسرة أيرلندية عسكرية، نشأت في بريتاني، وتلقت دراستها في دير للراهبات، وأتت في صباها إلى إنجلترا لتعيش فيها، واقترن بها هوايتهد في ديسمبر من عام 1890م، وعاشا في كمبردج عشرين عاما من هذا التاريخ، قضيا ثمانية منها من 1898م إلى 1906م في بيت مل بجرانشستر، وهو بيت ريفي من القرن السابع عشر مسقوف بالغاب، يقع موقعا جميلا وسط حديقة غناء، وعلى مقربة منه البركة التي ورد ذكرها في شوسر.
ولم تكن هنا فجوة بين الحياة المدنية والحياة الدينية، وقد شاركا في حياة القرية مشاركة حية، وضربا لأهل القرية مثلا بالامتناع عن شرب الخمر، وكان أهل القرية في ذلك الحين يدمنون الشراب، وحملا على عاتقهما إغاثة المحتاج وعول الخدم؛ فكان في سلوكهما هذا بقية من سلوك الأمراء في القرن الثامن عشر، بل سلوك الإقطاعيين في القرن السابع عشر. وقد ساقت هذه التجربة هوايتهد إلى إدراك الخلق الإنجليزي والعادات الشعبية الإنجليزية التي استطاع أن يربطها بتعميماته الفلسفية، والتي عاونت على صبغ تفكيره المجرد بالمسحة الإنسانية، وانغمس كذلك في سياسة الأحرار «وكان عملا مثيرا ... كان البيض الفاسد والبرتقال من الأسلحة الحزبية الفعالة، وكثيرا ما رميت به، ولكنها كانت دلائل القوة أكثر من دلائل الشعور السيئ.»
سئل مرة: «في أية فترة من فترات حياتك بدأت تحس أنك ملكت زمام موضوعك؟»
Bog aan la aqoon