Wadahadalka Aflatoon
محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون
Noocyada
ها هو ذا أجل سقراط يدنو من ختامه، فلقد أنبأه «أقريطون»، صديقه الشيخ حين زاره في سجنه قبيل بزوغ الفجر، أن السفينة التي بوصولها ينفذ حكم الإعدام، قد شوهدت وهي تقلع من «صنيوم». هذا وإن سقراط نفسه قد رأى في نومه أنه سيفارق الحياة في اليوم الثالث ... إذن قد أزف الموت فالوقت ثمين، ولهذا جاء أقريطون مبكرا لكي يحمل الفيلسوف على الفرار الذي هيأ له الأسباب، وما كان تدبير فراره عسيرا على أصدقائه الذين لن يصادفوا في تخليصه خطرا يعدل ما سيصيبهم من العار لو تركوه بين يدي الموت ... نعم جاء أقريطون قبيل بزوغ الفجر يغري الفيلسوف أن يعمد إلى الفرار، فواجبه أن يفكر في أبنائه، وألا يذر نفسه لعبة أعدائه، وإنه لمستعد أن يمده بالمال، حتى إذا ما ارتحل عن أثينا لم يجد عسرا في أن يجد له كثيرا من الأصدقاء الأوفياء. فيرد سقراط بأنه يخشى أن يكون أقريطون قد تأثر برأي الكثرة من أن سقراط لم يكن يعنى في ترجيح الرأي بكثرة قائليه، بل كان يستمع إلى ما يمليه العقل، وإلى الرجل الواحد الذي يكون حكيما حتى ولو عارض رأي الكثرة الغالبة. ألم يسلم أقريطون نفسه فيما سبق من الأيام بصحة هذا الرأي، فلا ينبغي لأحد أن ينساق لرأي الناس إن كان مخالفا للعقل؛ إذ لا خير في الحياة إلا إذا كانت خيرة عادلة، فلا عبرة إذن بما يقوله أقريطون مما قد يلحقهم من سوء الأحدوثة، أو مما قد يلحق أبناء سقراط من أذى وإهمال، فلا سوء الأحدوثة ولا أذى الأبناء بمبررين كافيين للفرار، إنما السؤال الذي يجب أن يلقى هو هذا: هل من الصواب أن يحاول الهرب؟ وأقريطون خير من يجيب على هذا السؤال لأنه سيبحثه بحث المحايد الذي لا يتأثر بموت مقبل كما كان سقراط حينئذ. إنه حدث قبل محاكمة سقراط أنه ناقش أصدقاءه ومنهم أقريطون فأجمعوا عندئذ على أنه لا يجوز لأحد أن يقترف الشر أو أن يرد الشر بالشر؛ فهل من الحكمة أن ينكص سقراط على عقبيه وينقض ما كان قرره، لا لشيء إلا لأن ظروفه قد تغيرت؟ فلا يسع أقريطون أن يسلم بأن المبادئ الصحيحة يجب اتباعها، فيسأله سقراط: وهل يتفق الفرار مع تلك المبادئ التي أقروها معا؟ فلا يستطيع أقريطون أن يجيب، أو قل إنه لم يرد أن يجيب.
فيمضي سقراط قائلا: هب قوانين أثينا جاءته فحاسبته لماذا يحاول أن يثور عليها؛ فماذا هو قائل؟ أيقول لأنها أساءت إليه، وعندئذ تجيبه القوانين بأن ذلك يخالف ما بينها وبينه من اتفاق وعهد، فإنه قد جاء إلى العالم في ظلها، ونشأ وترعرع في كنفها، فإذا لم تكن توافقه فلماذا لم يخلف أثينا ويقصد إلى حيث يشاء من بلاد الأرض حيث تطيب له القوانين؟ ولكنه على عكس ذلك عاش في أثينا سبعين عاما متصلة، وهو أمد طويل لم يتوفر لأحد غيره من أبناء المدينة ... هكذا بين سقراط لصديقه أقريطون أن بينه وبين قوانين المدينة عهدا لا يقوى على نكثه دون أن يتعرض هو للعار، ودون أن يتعرض أصدقاؤه للخطر. إنه كان يستطيع أثناء محاكمته أن يقترح على القضاة عقوبة النفي. لكنه أعلن حينئذ أنه يؤثر الموت على النفي، وهبه هاجر أثينا فأين يذهب؟ إنه إذا قصد إلى دولة منظمة القوانين عدته قوانينها عدوا لها؛ وإذن فلن يستطيع أن يرتحل إلا حيث الفوضى كتساليا مثلا، ثم افرض أنه قصد إلى بلد لا قانون فيه مثل تساليا هذه؛ فماذا عساه صانع فيها؟ أيمضي في إلقائه دروس الفضيلة على الناس؟ إن ذلك يكون قحة منه لا تحتمل. ثم ماذا يفيد أبناؤه إن هو استصحبهم إلى تساليا فأضاع عليهم شرف الانتماء إلى أثينا؟ فإن قلنا يخلفهم وراءه في أثينا تحت رعاية أصدقائه؛ فماذا يمنع رعاية الأصدقاء لأبنائه بعد موته، أم الأصدقاء الأوفياء يخلصون له العهد ما دام حيا. فإن تولى ذهب وفاؤهم؟
كلا إنه ينبغي أن ينظر إلى العدالة أولا، ثم إلى الحياة والأبناء ثانيا، فليرحل في براءة وسلام دون أن يلوث نفسه بفعل الشر، هذا هو صوت وحيه فليصدع بما يأمر الوحي. •••
أراد أفلاطون بهذا الحوار أن يرد التهمة التي طالما ترددت في سقراط من أنه لم يكن مواطنا صالحا لمدينته، ويظهر أن أفلاطون لم يكن يقصد بهذا الدفاع عن أستاذه إلى أهل أثينا في ذلك الحين، بل هو يتوجه به إلى الأجيال المقبلة كلها ليريهم كيف كان سقراط على أتم الولاء للقوانين، وأنه لم يكن قط ثائرا عليها ناقضا لها.
ونحن لا نستطيع أن نجزم برأي في صحة زيارة أقريطون لسقراط في السجن، واقتراحه عليه الفرار وتزيينه له وإغرائه به، وليس من العسير على أفلاطون أن ينتحل هذا الحادث انتحالا ليؤلف عليه الحوار، وشاء فن أفلاطون أن يختار أقريطون دون سائر الأصدقاء ليعرض على سقراط خطة الفرار؛ لأنه كان كهلا رزينا، صديقا وفيا لسقراط. فكان بهذه الصفات أنسب من يتقدم لسقراط بمثل هذا الاقتراح على فرض حدوثه.
وإن فقهاء القانون ليختلفون في هل يحق للرجل أن يفلت هاربا إذا قضت عليه قوانين دولته بحكم جائر، فلا تعدم بينهم من يقول إن سقراط كان يجب عليه أن يهرب ليعيش مؤثرا عمل الخير على موت مجيد، ولكن أفلاطون لم يتعرض في الحوار لمثل هذه الاعتراضات، واكتفى بأن يعرض المثل الأعلى للفضيلة التي تأبى أن ترتكب أهون الشر لكي تتخلص من أعظمه، وإنه ليصور أستاذه متمسكا قرب موته بالآراء التي اعترف بها في حياته، فلقد لبث سقراط حتى النهاية متشبثا بالمبدأ القائل ألا نأبه لما يقوله الناس بل العبرة بما يقوله «الفرد الحكيم»، فلا ينبغي أن ننقاد إلا للعقل وحده حتى ولو انتهى بنا إلى الموت.
إن هذا الحوار الصغير مثل رائع للجدل الصحيح؛ إذ ترى فيه كيف إذا سلمت بالمقدمة فلا مهرب من نتائجها.
أقريطون أو واجب المواطن
أشخاص الحوار:
سقراط، أقريطون.
Bog aan la aqoon