ربما كان كلانا يسخر من نفسه، ولكن لا بأس .. ففي لحظة كتلك، أن يلتقي مجنونان سيموتان يوما ما، فليس أمامهما إلا البحث عن دوافع لوجودهما .. استسلمت لهذه الحقيقة المرفوضة بالنسبة لي، ولم أتوقع يوما بأنني سأتصالح معها. لقد كررت هارمونيكا عبارتها حول الانتظار، ولكنها هذه المرة أردفت معترفة: «إن وجودي هنا لم يكن إلا مقاومة مستمرة لفكرة الانتحار.»
5
لقد انتحرت هارمونيكا.
قالت لي يوما إن الانتحار خيار أكثر سخافة من الحياة نفسها، وإن الحياة برمتها ما هي إلا تحد لفكرة الموت، ورغم هذا فقد انتحرت.
بدأ الأمر عندما أضعتها مجددا، فذهبت إلى الشجرة والضفيرة، صعدت إلى الأعلى، لفتني كم هي طويلة ضفيرتها ومع كل جدلة في شعرها كان هناك حياة لها على هذه الجزيرة .. ذهبت بنظري إلى آخر الضفيرة وراء الصخرة فصدمني أنها صنعت من الضفيرة حبل مشنقة وكان ملتفا حول عنق امرأة بلا ملامح واضحة، ولكني افترضت ضمنا أنها جثة هارمونيكا.
اهتزت ركبتاي وسقطت إلى الجثة ذات الرائحة النتنة، ولم أستطع أن أحتمل فكرة أن أكون أنا قد تمكنت من القتل ذات جنون وهي قد استطاعت أن تقتل نفسها ذات فاجعة .. لم أكن أعرف إن كان الحزن الذي شعرته هو حزن على فقدان من لم أعرفه جيدا، أم هو حزن على مستقبل فارغ في جزيرة فارغة، أم هو تعاطف فطري، أم هو رفض لفكرة أن ينهي أحد حياته .. أم هو حزن من نوع آخر.
لا يهم .. أما المهم فهو أن هارمونيكا جاءت ورأتني أمام الجثة .. «الأمر جنوني أليس كذلك؟» ربما .. ولكن هذا ما حدث .. لقد جاءت من وراء ظهري وهي تقول بشرود: كنت أعرف أنك ستأتي يوما ما إلى الجثة.
في لحظة كهذه لا يجدر بي إلا أن أشك في نفسي، وأفكر: هل تهيأ لي أني رأيت جثتها منذ هنيهة، أم يتهيأ لي أني أراها الآن أمامي .. ولم يكن مني إلا أن نظرت إلى كليهما مشدوها. وبعد برهة قالت: لست أذكر من منا الذي قال إن الحياة في الجزيرة لا تتبع لمنطق العالم.
قلت متوجسا: الموت حقيقة وليس بمنطق! - الموت ربما، قد يكون حقيقة، ولكن لا حقيقة محتومة لما بعد الموت.
اقتربت من هارمونيكا، وقصدت ألا أنظر إلى الوراء، وقلت بانفعال: لحظة .. أخبريني .. من هذه الراقدة في الحفرة؟
Bog aan la aqoon