فلما انتهت المقابلة، وعاد المستر باركر إلى منزله، أتاه ترجمان محمد علي موفدا إليه من الأمير ليبلغه عدم رغبة سموه في أن يقابل في المستقبل إنجليزيا ولينهاه عن طلب مقابلات لهم.
وكان سخي اليد سخاء حاتميا يكاد يداني الإسراف، كما أنه كان شديد التأثر سريعه بالمؤثرات المباغتة، لا يستطيع إلا بصعوبة إخفاء ما تحدثه في نفسه، وكان - كالإسكندر الكبير، مواطنه، وعلى الأخص كقيصر الروماني - شديد الميل إلى النساء، كبير الشغف بهن، مع كثرة احترامه لزوجته الأولى التي سعد بطالعها السعيد، ولكن شغفه بالمجد كان أكبر، فكثيرا ما كان يفكر في الرواء المحيط باسمه، ويتكلم بفخار وحماسة عن حوادث حياته العجيبة، ولشغفه بالمجد كان كبير التأثر بما تقوله الصحافة الغربية عنه، فيأمر بترجمة معظم الجرائد، ومتى وجد في إحداها طعنا عليه تألم منه ألما شديدا، وكان يعتقد أن مطاعن الصحافة أضرت به كثيرا، وحملت الدول على معاكسته في نزوعه إلى الاستقلال، لا سيما مطاعن جريدة كانت تنشر في أزمير، فتذيع في أوربا أشنع المثالب ضده، وترمي حكومته بأفظع التهم، حتى لقد قال مرة لأحد أخصائه: «ليتني اشتريت بمليون ريال عدم ظهور تلك الجريدة إلى الوجود! فقد كان في استطاعتي؛ لأن صاحبها عرض علي خدمته دهرا، فرفضتها!»
وكان، لكثرة ما اعترض حياته من الحوادث الجلى؛ قليل النوم، مضطربه في الغالب، ولذا فإن عبدين كانا يسهران دائما بجانب سريره، ليهذبا الأغطية التي كان لا ينفك يعبث بها في نومه، ولكنه - بالرغم من نومه القليل - كان كبير العمل وكثيره، فيستيقظ الساعة الرابعة صباحا، ولا يفتأ النهار كله مجدا يشتغل في شتى الأعمال، وكان يحسن الحساب، ولو أنه لم يتعلم فنه، ولأنه كان أميا أقبل يتعلم القراءة على يد إحدى جواريه، وهو في الخامسة والأربعين من سنه، وذلك بالرغم من انشغال فكره بالشئون العامة العديدة والتي كان الكثير منها كبير الخطورة.
وكان - مع أخصائه - قليل التحرس، مفتوحا، محبا للوقوف على ما لا يفهم، وكثيرا ما كانت استفهاماته تنم على جهله وسذاجته، ولكنها كانت تنم أيضا على ذكاء مفرط، وإدراك بعيد الغور، وأما إجاباته في المحادثات فكثيرا ما كانت تناسب بكيفية بديعة مع المقام والمجال، يحكى من هذا القبيل أن أحد القناصل أطنب ذات يوم في حضرته إطنابا فائقا بتصوير لهوراس فرنيه - المصور الفرنساوي الشهير - رسم فيه مجزرة المماليك، وأعجبت باريس به أيما إعجاب، فقال له محمد علي: «إن للمصور في مجزرة مماليك بوناپرت التي قام بها شعب مرسيليا لمادة لتصوير آخر يضعه إزاء التصوير الذي تذكره!» ويحكى أيضا أن بعضهم آخذه يوما على تعاريج ترعة المحمودية ومنحنياتها - وسببها أن المهندسين الذين اشتغلوا فيها تحت رياسة المهندس المعماري كست كانوا من الجهلاء، وأنها عملت بدون تصميم سابق، وبدون تجهيز تمهيدي، وأن الفعلة استدعوا وشغلوا في حفرها تحت مراقبة مشايخ بلادهم وزعمائهم، قبل إخطار المهندسين بحضورهم، فلم يتمكن هؤلاء من تعيين جهات العمل لكل فرقة وطائفة من القادمين، واضطروا إلى جعل كل يشتغل حيثما يشاء، على أن يكون الحفر في الاتجاه الموضوع، ثم لما احتاجوا إلى وصل الحفر بعضه ببعض، اضطروا إلى عمل زوايا ومنحنيات بأحسن ما في الاستطاعة - فسأل محمد علي المعترض، قائلا: «هل الأنهار في بلادك ذات سير مستقيم ولا تعاريج فيها؟» أجاب: «كلا.» فقال محمد علي: «ومن صنعها؟» أجاب: «الله!» فقال: «وهل تريد أن يكون صنع الإنسان خيرا من صنع الله؟»
وكان بطبعه ميالا إلى الأثرة والعنف، ولكنه كان يدري كيف يشكم ميوله، ويسير بمنتهى الفطنة والمهارة فيما يرسمه لنفسه من الشئون، وبالرغم من ميله إلى الغضب بسرعة، كان ما جبل عليه من طيبة طبيعية يحول دون إقدامه على الإساءة، وكثيرا ما أفرط في التهاون عن المعاقبة إلى حد عدم المبالاة بها بتاتا، وكثيرا ما تساهل في الصفح عن طيبة خاطر، بل كثيرا ما نسي سيئات خطيرة ارتكبت ضده، على أن زمام هواه كان يفلت أحيانا من يده، فيندفع مع تيار انفعاله اندفاع الرجل المستبد بلا تعقل.
مثال ذلك: أنه أتته مرة ضمن مجموعة نباتات استوردها من أورپا داليا غرسها بستانيه في الأرض في محل تتناوله الشمس من كل جهة، بعيدا عن الكشك الذي كان محمد علي يحب أن يجلس فيه، فأزهرت وتألقت بدون أن يلتفت الباشا إليها، ولكنه اتفق أن زائرا أجنبيا بالغ يوما ما في وصف جمالها، فلفت إليها نظر محمد علي فأعجب بها، وأمر في الحال بوضعها في صندوق ونقلها تحت الجميزة التي كانت تظلل كشكه، فاعترض البستاني وقال: «إن مثل هذا العمل قد يقتل الزهرة!» فقطب محمد علي حاجبيه وأقسم بأنه يدفن حيا من يدعها تموت! فامتثل البستاني للأمر، ولكن الداليا من غد أخذت في الذبول ومالت على ساقها، فما كان من محمد علي إلا أنه - لظنه بأن البستاني تعمد قتلها - أمر به فطرح أرضا وضرب بالسياط، بالرغم من احتجاجه! ولكنه ما انفك يقول إنه ليس في الاستطاعة حمل الزهور على الطاعة كبني الإنسان، وليس من الحكمة التحكم فيها كالتحكم فيهم، حتى آب محمد علي إلى صوابه، وأوقف الضرب، وما لبث أن بعث بهدية فاخرة للبستاني بمثابة تعويض له عما لحقه من الضرب.
ويحكى أيضا أنه أوصى بستانييه يوما بالاعتناء ببضع أشجار برقوق أتته من أورپا، فأطاعوا وأثمرت إحداها ولكن ثمرا قليلا، وكان محمد علي قد تتبع حركة نموها وطرحها، وخطر له يوما أن يذوق من ذلك الثمر وهو فج، فاستطعمه جدا، وأمر ناظر بستانييه بالاعتناء بالثمرات الخمس أو الست الباقية الاعتناء كله، فأحاط الناظر الشجرة بشبكة من الخيط ليحفظ الثمر من العصافير، وعهد أمر الاعتناء بها إلى بستاني خاص، ولكنه حدث أن عاصفة مرت بالشجرة ، فأوقعت البرقوقات كلها إلا واحدة، على أن هذه الواحدة بلغت من الرواء والحجم والنضوج ما لم يعهد له مثيل، ولكن محمد علي لم يعد يسأل عنها، فتداول الناظر مع مرءوسيه، وأجمع رأيهم على أن وقت قطف البرقوقة قد حان؛ فإن لم تقطف وقعت أو فسدت، فقطفوها ولفوها في قطن، ووضعوها في علبة وأرسلوها مختومة على يد ساع خاص إلى سمو الأمير، وكان الزمان رمضان، ومحمد علي - لتوعك في مزاجه - يتناول طعام الإفطار في دور الحريم، فقدم له البرقوقة - ضمن فواكه أخرى - خصي لم يكن أعلمه أحد بعظم أهميتها لدى مولاه، فأكلها محمد علي بدون انتباه، وبدون التفات إلى أنها الفاكهة التي أوصى بالمبالغة في الاعتناء بها.
بعد بضعة أيام ذهب إلى بستانه، وتوجه توا ليرى ماذا جرى ببرقوقه، فلم يجد على الشجرة من ثمرة، فاعترته هزة غضب شديدة، لم تدعه يتأنى ليستفهم، فأمر بناظر البساتين فألقي أرضا تحت الشجرة، وانهال عليه الضرب، ولكنه ما عتم بصراخه أن جعل مولاه يصغي إليه، فقص عليه الواقع، فأرسل محمد علي يستقدم الخصي، وأول ما وقعت عينه عليه من بعيد، سأله: «أصحيح أني أكلت برقوقة؟!» فأجاب الخصي: «نعم يا مولاي، منذ بضعة أيام في طعام الإفطار!» فصرخ محمد علي: «ولم تقل لي شيئا يا شقي؟!» وبدت منه إشارة، ما لمحها الخصي إلا وركض ووثب على جواد الباشا - وكان هناك مسرجا على مقربة منه - وذهب يعدو به الغيطان، قبل أن يفكر أحد في القبض عليه، ثم أقام أياما مختبئا لا يجسر على الرجوع إلى السراي، ولكن محمد علي عاد فصفح عنه.
وكان محمد علي مسلما مخلصا في دينه، يقوم بأداء فرائضه بكل نشاط، ولكنه لم يكن بالمغرق في عبادته، ولا بما يدعوه الغربيون «متعصبا» بل كان واسع الصدر جدا لجميع الأديان، وأظهر من الشجاعة الأدبية في ذلك ما كان عجيبا في عصره ووسطه.
ولهذا السبب عينه كان بعيدا عن الاعتقاد بالخرافات والخزعبلات، فيحكى - للدلالة على ذلك - أن امرأة في دمنهور قامت وادعت أن عليها شيخا من الجن إذا ما حضر أتى من المعجزات ما تحار له العقول، وساعدها على إثبات إفكها أنه كان في استطاعتها التكلم من بطنها، فيخرج الصوت منها كأنه آت من أعماق ما وراء المادة، فلما رأت نجاح أمرها في بلدها سولت لها نفسها الذهاب إلى مصر، على أمل أن يكون نجاحها هناك أكبر، وكانت العاصمة إذ ذاك غاصة بالجنود المحتشدين فيها للسير إلى مقاتلة الإنجليز، فراج إفك المرأة بينهم واعتقدوا فيها الولاية، وبات لها نفوذ عظيم على عقولهم الساذجة السمجة، ولما كانت عقلية ضباطهم لا تفضل عقليتهم في شيء، شاركهم الضباط في اعتقادهم، وأصبح لا يجسر أحد على الشك في حقيقة الشيخ الساكن في تلك المرأة، لا سيما وأن الكثيرين من المصدقين فيها سمعوا صوته في ظلام الليل، وأن بعضهم تشرف بلثم يده ...
Bog aan la aqoon