ولحظ فون مولتكي توقف المدفعية المصرية عن الضرب، فأشار على حافظ باشا بأن يحمل في الحال حملة عنيفة برؤوس الحراب على الجيش المصري الذي أقلقه ذلك التوقف، ولو عمل حافظ باشا بالنصيحة، ربما أمال النصر إلى جانبه، ولكنه لم يفعل، وما لبثت الذخيرة أن أتت المدفعية المصرية، فعادت إلى إطلاق النيران أشد مما كانت، وما لم يعمله حافظ باشا عمله إبراهيم؛ فإنه حالما وقع نظره على أول اضطراب أحدثته مدفعيته في صفوف الأتراك وثب عليهم بجيشه الباسل شاهرا حرابه، فبددهم شذر مذر.
ولما بلغ نبأ هذه الكسرة السلطان محمودا قال: «إذا كان محمد علي الرجل الحاذق الذي أنا أعرفه، فإنه سيقدم إلى دار السعادة ويقبل يدي، فأعينه صدرا أعظم، وأعين إبراهيم ابنه ساري عسكر السلطنة؛ فينهضان بها كما نهضا بمصر!»
فنقل كلامه هذا إلى الصدارة العظمى - وكان القائم على مهامها خسرو باشا، عدو محمد علي اللدود القديم والسبب الأصلي في هذه الحروب التي دارت رحاها بين مصر والدولة العلية - فلم تمض ستة أيام إلا والسلطان محمود في عداد الأموات، وكان أحمد فوزي باشا - أمير العمارة العثمانية - يرى رأي السلطان محمود، ويعتبر أن محمد علي وحده قادر على إنقاذ الدولة من الخراب المحيط بها، فسار بعمارته وسلمها إليه، يوم 14 يوليو سنة 1839.
ولكن إنجلترا أيضا - لسوء الحظ - رأت رأيه، فأبت أن تقوم على ضفاف النيل دولة مصرية قوية تجعل طريقها إلى الهند غير أمين، فألبت على محمد علي روسيا وپروسيا والنمسا، وأبرمت معها معاهدة لندن سنة 1840 التي اتفقت تلك الدول فيها على وقف محمد علي عند حده، وعلى عدم السماح له بأن يكون إلا تابعا لسلطان تركيا، أما فرنسا فإنها لم تشترك في تلك المعاهدة، وعضدت الباشا العظيم جهارا .
وبعد عقد تلك المحالفة تقدمت الدول المتحالفة إلى محمد علي بأن يتخلى عن الأناضول وسوريا، ويكتفي بولايتي عكاء ومصر، فرفض.
فاشتغلت النقود في الخفاء، وبثت الدسائس، فثار دروز لبنان على إبراهيم، واستولى الإنجليز على صيدا، فعلى بيروت، فعلى عكاء أيضا، بعد قتال يسير وخيانة جلى، وظهر الكومودور نابيير بعد ذلك أمام الإسكندرية وعرض الصلح على محمد علي، فدارت المخابرات بين الدول والباب العالي، وسعت فرنسا لدى الباشا العظيم، فاتفق أخيرا على أن يرد محمد علي إلى الباب العالي عمارته، ويأمر ابنه بالانسحاب من سوريا.
فعاد الجيش المصري الفائز إلى أوطانه، وأصدر السلطان عبد المجيد - بالاتفاق مع الدول - فرماني 13 فبراير سنة 1841، اللذين بقيا دستور الحكومة المصرية، حتى أبطلت مساعي إسماعيل الأول معظم نصوصهما، وأوصلت القطر إلى استقلال تام، لا يقيده سوى قيد الجزية السنوية. •••
هكذا انتهت حرب سوريا، ولو لم تتداخل السياسة الأوربية المشئومة في مجاري حوادثها، وتركتها وشأنها، لنشأ عنها - على ضفاف النيل من ينابيعه إلى مصبه، وعلى ربوع الشام حتى جبال الأناضول - دولة مصرية عربية، على رأسها الأسرة العلوية المجيدة، ربما استطاعت - مع تمادي الأيام - أن تعيد إلى الشرق عزه وسؤدده، ربما أثار شأنها روح الغيرة في صدر الدولة التركية، فجعلها تقوم فتعمل، منذ ذلك الحين ما أقدمت عليه وأتمته في أيامنا هذه تحت قيادة بطلها الأكبر مصطفى باشا كمال! وربما حدا مثلهما بفارس وأفغانستان إلى الاقتداء به، فتنظمتا وتقويتا وترقيتا، فاتحدتا مع الدولة المصرية العربية والدولة التركية، فكونتا اتحادا شرقيا عظيما، كان يكون له في عالم السياسة قدح معلى، وكانت الأمور لا تجري إلا بإشارة بنانه.
ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.
الفصل الخامس
Bog aan la aqoon