ففتح محمد علي المدارس تترى: ابتدائية وثانوية وعالية، أذكر لكم بعضها ليكون عندكم فكرة منها كلها.
فالمدارس الابتدائية كانت سبعا وأربعين، منها: مدارس المحلة الكبرى وزفتى والمنصورة والزقازيق والجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وإسنا إلخ.
والمدارس الثانوية والعالية والخصوصية كانت أربعا وعشرين، منها: مدرسة قصر العيني، ومدرسة اللغات، والمدرسة البوليتكنيكية، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الطب والتوليد، ومدرسة العمليات (أي الفنون والصنائع ) ومدرسة الموسيقى إلخ.
وأدخل في هذه المدارس التلامذة والطلبة رغم أنوفهم وأنوف أهلهم، وأحضر إليها الأساتذة الأكفاء من بلاد الغرب، وعلم فيها العلوم الوضعية، التي كانت - ولا تزال - سببا كبيرا من أسباب رقي الغرب وتقدمه، وأنشأ بعضا من تلك المدارس - كمدرسة التشريح مثلا - رغم كل معارضة وكل مقاومة، حتى من لدن رجال الدين، ولم يكتف بذلك، بل أرسل البعثات تلو البعثات إلى المعاهد الأوربية؛ لا لكي يقتبس المبعوث بهم علوم الأمم الغربية وفنونها وصنائعها فحسب، بل ليتخرجوا أساتذة فيها، فيعلموها مواطنيهم بعد عودتهم إلى البلاد.
وأضاف إلى تجديد بجدة المدارس، إقامة المعامل والمصانع في طول البلاد وعرضها؛ ليتمكن قطرنا من ترويج المصنوعات على الطراز الغربي؛ لاعتقاد محمد علي أن تغيير معالم البيئة المادية يساعد كثيرا على تغيير معالمها المعنوية، ولتتمكن البلاد من الاستغناء جل الاستطاعة عن الواردات الأجنبية.
رابعا:
بأن غطى وجه القطر بالأشغال والأعمال المفيدة، وسخر فيها الأيدي تسخيرا، ولولا ذلك، لما اشتغلت ولما تمت تلك الأعمال، فمن سد أبي قير - وكان الإنجليز قد كسروه في حربهم مع الفرنساويين، فأغرقوا جزءا عظيما من مديرية البحيرة، ودمروا القرى والبلدان جنوبي بحيرة مريوط حتى حوش عيسى، إلى سد الترعة الفرعونية - وكانت تحول جانبا عظيما من مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد، فتسبب - لا سيما في أيام التحاريق - شرقا عظيما لمزروعات شمالي الدلتا والدقهلية، إلى سد فتحة ديبي ببحيرة المنزلة، لمنع مياه النيل من الانصراف بسرعة إلى البحر الملح، ومنع مياه البحر الملح - في أيام التحاريق - من الدخول بغزارة في تلك البحيرة، مسوقة إليها من الرياح الهابة من جهة اليم، إلى تقوية جسر قشيش - وهو الذي كان يصون مديرية الجيزة من الغرق، إلى بناء جسر لسد قطع في البحر اليوسفي غربي ناحية (هوارة المقطع) في جهة (طميه)، إلى تعزيز قنطرة اللاهون، إلى حفر الترع العديدة وأهمها المحمودية والخطاطبة، ومسد الخضراء، والنعناعية، والسرساوية، والباجورية، والبوهية، والمنصورية، والشرقاوية، إلى إقامة قناطر حاجزة عليها ومسهلة للري، إلى بناء الترسانة وحوض تصليح السفن، وتشييد قناطر بحر شبين بالقرنيين، والقناطر الخيرية الكبرى - وهي معجزة أعماله المعجزة - إلى ابتناء الحصون والقلاع على السواحل المصرية لدرء هجمات الأعداء عليها، وابتناء السرايات العديدة، وأهمها سراي رأس التين، وسراي شبرا، وسراي قصر النيل، إلى الشروع في تحويل الأزبكية إلى منتزه عمومي، إلى إنشاء شارع ما بين باب رشيد بالإسكندرية وسراي رأس التين، وكسائه بمسحوق من الجير والبتسولانة الصناعية لجمع الحجارة بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة التي غيرت وجه القطر تغييرا محسوسا.
خامسا:
بأن هدم الحواجز التي كانت العصور السالفة قد أقامتها بين تعامل الغرب والشرق، ومكن العالمين من الاختلاط معا، لا بالاتجار الواسع فحسب، بل بالاحتكاك اليومي في العادات والأخلاق والعقلية؛ فحبب إلى الغربيين المجيء إلى القطر والإقامة، بل والتوطن فيه، واستغلال رؤوس أموالهم في أرضه، وإنشاء مدارس لأولادهم على سطحه، وفتح أمام قومه أبواب السفر إلى الغرب، والتعرف بحاله والاقتباس عنه، وكان أجدادنا في ذلك العصر يكادون لا يعلمون عن الغرب أكثر مما كان يعلم الأوربيون عن أميركا حتى أواسط القرن السابع عشر، وليس من يجهل أنه لولا اختلاط العالمين معا، لما تخلصنا من أفكار كثيرة كانت من أكبر أسباب قعودنا عن جري شوطنا في الميدان الذي تتسابق فيه الأمم المتمدينة نحو الرقي المادي والأدبي، ولو تسنى لعصر الرشيد والمأمون ما تسنى لمصر وسوريا بعمل محمد علي، من توسع دائرة هذا الاختلاط وتشعب أسباب الاحتكاك بين العالمين واقتباس المدنية الإسلامية عن المدنية اليونانية ما اقتبسته النهضة العلمية العلوية في القطرين عن المدنية الغربية، لما دالت للخلافة العباسية دولة ولما غربت للمدنية الإسلامية شمس.
سادسا:
Bog aan la aqoon