Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Noocyada
وكان جساس لا يخفي جرأته وتحديه؛ فقد طالما جهر في نوادي بكر بكراهية كليب، وطالما جرأ الشبان من قومه على أن يتكلموا فيه ويسخروا منه في غيبته. كان جساس يحرض عليه ويثير النفوس، ويوشك أن يوقد بين الناس فتنة عمياء. بل لعله هو الذي فتح عقول القوم إلى التذمر مما كانوا من قبل لا يرونه إلا حقا وعدلا، ووقف وائل ينظر إلى ذلك الشاب المتحدي وثارت في قلبه الحفيظة، وعزم على أن يتنبه وأن يضرب وإلا كانت عاقبة أمره وبالا.
ونزل عن الربوة ولم يعد إلى روضته التي كان قد أزمع أن يقضي فيها اليوم وحده يلتمس نزهة تهدئ من قلبه الثائر، بل عاد إلى بيته يسرع الخطى وقلبه يفور، وأنفاسه تضطرب، وقد تمثلت أمام عينيه مناظر الصراع المقبل الذي يوشك أن يقع بينه وبين ذلك الفارس الجريء.
ولما بلغ مضرب خيامه المشرفة على الوادي لم يلتفت إلى من كانوا في فنائه الفسيح من عبيد وأتباع، بل سار مسرعا والكلب يجري وراءه لاهثا.
ولما بلغ خيمته دخل إليها، ثم نادى في شيء من العنف: «جليلة»، فنهضت امرأته مسرعة وأقبلت نحوه تبتسم، ولكن نظراتها إليه كانت تنم عن دهشة؛ فقد كانت تعد له زق الخمر، وتهيئ له شواء من الكبد والسنام لكي ترسله إليه مع العبد «الغصين » في الروضة كما أمره منذ حين قصير. وأحس قلبها أن في رجوعه إليها بعد ذلك الحين القصير دليلا على أمر خطير أزعجه لم يكن في حسبانه. ونظرت إلى وجهه فأدركت أنه قد عاد إليها غاضبا ثائرا، فقد كانت عيناه محمرتين تقدحان شررا، وخيل إليها أن الشعرات القائمة في وسط شاربه تهتز في قلق. وأرادت أن تزيل ما عنده من الشجن الثائر حتى لا تبدر منه بادرة قاسية؛ فإنه كان إذا ثار لم يملك بوادره الدموية. كان لا يعبأ أن يبقر بطن فرس عزيز، أو يطيح بسيفه رأس بعض عبيده المساكين الأبرياء. حتى إذا ما سكن غضبه وعاد إلى نفسه استولى عليه الحزن وكاد يبخع نفسه أسفا. ولم يكن أكبر ما يحملها على أن تذهب ما في نفسه أنها كانت تحرص على فرس أو تشفق على عبد مسكين، بل كان الذي يعنيها هو هذا الهم الذي رأت عليه بوادره منذ حين؛ فقد أحست تغيرا عظيما اعتراه في تلك الأيام الأخيرة، وكان قلبها يعصر عصرا قاسيا كلما رأته يقضي اليوم والليل كاسفا متململا لا يكاد يذوق نوما ولا راحة، وتقدمت نحوه ووضعت يديها على كتفه في وداعة وقالت في صوتها الرخيم: مرحبا بك. لقد كنت أعد لك طعامك.
فنظر وائل إلى وجهها نظرة سريعة، ثم بدت على وجهه ابتسامة ضئيلة، ولكنه حول نظراته عنها وأمسك بيديها برفق فأزاحهما عن كتفيه، ونزع قوسه فقذف بها في حنق إلى ركن من الخيمة، ثم قذف بكنانة سهامه على الأرض في عنف حتى قعقعت، وذهب إلى نطع من الجلد في صدر الخيمة فجلس عليه واحتبى بسيفه ونظر إلى الخارج وهو ساهم صامت. فقربت جليلة منه وجلست إلى جانبه، وجعلت تعبث بيدها حينا في شملته، ثم قالت بصوت خافت: أراك مهموما.
فانفجر وائل قائلا: لقد طال صبري ولم يبق بعد في القوس منزع. قاومت نفسي وكبحت جماحها من أجلك. من أجلك أنت يا جليلة، ولكنه يتمادى ولا يزيد إلا جرأة علي.
فأطرقت جليلة صامتة، ووقع في قلبها من يكون ذلك الجريء الذي يقصده زوجها؛ فلم يكن في قبائل ربيعة كلها من يجرؤ عليه إلا أخوها جساس بن مرة الذي لا يعرف لنفسه سيدا. أطرقت حزينة وقلبها يغوص إلى أعماق صدرها وتواردت عليه الخواطر سراعا. لقد طالما سمعت بما يقوله أخوها في نادي قومه من التعرض لزوجها الحبيب، وطالما غاضبته وأنحت عليه بلومها. وكم توسلت إليه وهي باكية لكي يتجنب ما يوجب القطيعة بين زوجها وقومها؛ فإن تلك القطيعة لم تكن لتجر في هولها جساسا أخاها وحده، بل هي داهية محطمة تخبط وتنزع وتمزق الشمل كله. فلو كان جساس يجني بها على نفسه لما كان ذلك يطعن قلبها مثل تلك الطعنة، فإنه فتى عنيف متكبر لم يدع في قلبها رقة عليه، ولكن ثورته كانت جناية عليها وعلى قومها جميعا؛ قوم أبيها وإخوتها من بكر، وقوم زوجها وبني عمها جميعا من تغلب.
وأفاقت جليلة على صوت زوجها يهدر قائلا: إن أخاك جساسا يتحدث عني حديث الكاره المستهزئ ويجرئ علي هؤلاء الأحداث الذين كانوا أطفالا في أفنية آبائهم يمرحون ويلعبون، عندما كانت المعارك الدامية تثور من حولنا؛ إذ نجاهد أقيال اليمن وملوكها في جبال العالية من تهامة. كنا نبني لهم المجد لكي يصعروا خدودهم للعرب جميعا، فإذا هم اليوم قد أذهلهم البطر والجهل، فحسبوا أنهم أصحاب ذلك المجد الذي ينفخ أوداجهم كبرا. أما وأنصاب بكر وتغلب كلها، لئن لم ينته ذلك الأخرق لألحقنه بالعبيد، ولأجعلنه عبرة لأصحابه الآخرين.
فرفعت جليلة يدها إلى غديرتيه، وجعلت تفتلهما بأصابعها، ثم قالت بصوت هادئ: هون على نفسك يا ابن العم أمر جساس، ما هو إلا منك وما أنت إلا منه. لا تستمع إلى ما يسعى به إليك الواشون؛ فرب واش لا يريد إلا فسادا.
فقال وائل ولا يزال حانقا: لا تعتذري عنه يا جليلة؛ فلقد كنت تعذلينه وتلومينه. ألم تأتني أنباء ما قلت له؟
Bog aan la aqoon