Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Noocyada
فقال وائل: «جهز لي طعاما وشرابا، واتبعني إلى هناك!» وأشار بيده نحو قلب الروضة، ثم سار بغير أن ينظر نحو العبد، فحنى هذا رأسه وسار مسرعا نحو البيوت المنتشرة في أعلى الوادي، حول القبة الحمراء العالية المشرفة على الحي.
كان وائل يبدو لمن نظر إليه شابا يتألق على وجهه الأسمر رونق الشباب، وهو يسير مرفوع الرأس كأن قوامه النحيف عود رمح سمهري، وينظر بعينين لامعتين تبصان ببريق فيه قسوة، وقد انعقد ما بينهما في عبسة، كأن جبينه الواسع لم ينفرج يوما عن بسمة، وكان أنفه الدقيق الأقنى ينتهي إلى فم رقيق الشفتين، وشارب أسود الشعر مفتول الطرفين، تشذ منه شعيرات قائمة في وسطه قد تمازجت فيها خيوط بيضاء وأخرى سوداء، وكانت لحيته الخفيفة تدور حول وجهه، لا ترى العين أثرا من الشيب في شعرها الأسود الجعد.
وكانت عمامته البيضاء تنتهي من وراء بطرف مسبل يبلغ مجمع كتفيه، وتبرز من تحتها ذؤابتان من شعره الأسود تلمعان به بما عليهما من دهن وعطر.
وسار وائل بخطاه البطيئة نحو الروضة الخضراء، والكلب يسير من خلفه يتمسح في أذياله.
ولما بلغ السيد مدخل الروضة وقف هنيهة ينظر فيما حوله يفحص عما في الرمال من آثار، ثم أشار إلى الكلب بطرف سيفه المتدلي من حمائله وصاح به: «ههنا يا عساف؟» ففهم الكلب الإشارة وأقعى حيث أشار إليه سيده، وعوى عواء خفيفا.
ودخل الرجل الروضة، فجعل يمشي في مساربها ينظر ما بها من آثار، ويميل إلى كل زهرة يراها فيتأملها مليا، ثم يمضي عنها متباطئا، ويمد يده إلى الأغصان المتدلية عابثا بأوراقها حينا، ونازعا بعض أوراقها حينا. ثم أوغل في الروضة حتى بلغ مكانا قد ظللته أشجار ملتفة، فحمته من بلل المطر، وسقطت عليه الأوراق فكسته فراشا وثيرا. فمهد الورق بقوسه، ثم ألقى القوس إلى جانب، وألقى كنانته إلى جانب، ونشر شملة كانت عليه فجعلها فوق الأوراق الجافة، ومال فاضطجع عليها فوق ظهره، متكئا برأسه فوق كفه، وجعل يتأمل السماء من خلال الغصون المتدلية، ويتلقى شعاع الشمس المائل داخلا إليه من بين الجذوع والفروع.
اعتاد وائل كلما نزل القطر وغسل الغبار عن الأغصان وسالت به جداول الوادي أن يذهب إلى تلك الروضة ليتمتع بيوم في ظلالها. وكانت بهجة الحياة تتحرك فيه عند ذلك فيلتمس نداماه ويقضي معهم يومه يطاردون متع اللهو، ثم يعود بعد يومه، طروبا ممتلئ القلب بالبشر. ولكنه لما خرج في ذلك اليوم كان على غير عهده بنفسه. خرج إلى روضته وحيدا يحس في قلبه حزنا كامنا لا يتبين مبعثه، وخيل إليه أن العالم يفيض حوله بنبضات حزينة تطن في أذنيه، وأن السماء الصافية تخفي وراء أنوارها الشفافة أسرارا غامضة، وأن الصحراء التي تمتد تحت ناظريه إلى الأفق المستدير، ليست كما عهدها فضاء فسيحا يسرح فيه بصره مطمئنا، بل كانت تزدحم وتضطرب حتى تكاد لا تدع له فيها خلوة، وأن النسيم البليل الذي يملأ صدره منه يزيد نفسه القلقة ضراما واختلاجا.
خرج في ذلك اليوم وحده إلى روضته التي طالما شهدت مجالس أنسه وطربه، وكان يطمع لو استطاع أن يجد في جمالها الساذج ذلك السلام الذي عجز أن يجده في نوادي قومه أو في فناء منزله الفسيح، أو في الوادي الأعشب الذي ترعى به إبله. ولكنه عندما اضطجع في ظلال الروضة وجدها أعلى ضجة من المجامع المزدحمة المضطربة.
لقد كانت نوادي قومه منذ حين تضيق بنفسه وتملؤها ضجرا، وكان فناء منزله يبعث في قلبه وحشة وكآبة؛ ولكن تلك الروضة نفسها قد خيبت أمنيته فلم يجد فيها إلا وحشة وكآبة.
وتواردت عليه وهو مضطجع تحت ظلال الغصون المتدلية صور من حياته مرت في خياله سراعا، فتذكر حروبه ومواقعه عند أراط والكلاب، ثم موقعته الكبرى عند جبل خزازى، حيث تهاوى بفرسانه ليلا نحو النيران الموقدة على رءوس الجبال، وأحاطوا بأهل اليمن فحطموهم حتى لم تقم لهم بعد قائمة، فانتصف منهم لقومه ربيعة، وألقوا نير اليمن عن رقابهم وتبوءوا مقاعد السيادة في هضاب نجد. إنه هو الذي اجتمعت حوله الكلمة، فقاد عرب الشمال جميعا من ربيعة ومضر حتى انتهى بهم إلى النصر البارع، وطرد السادة من ملوك اليمن من تلك الربوع التي رتعوا بها من قبله أجيالا. ولكن قبائل ربيعة قد تغيرت عليه وجحدت فضله ونسيت بطولته، فأصبحت تتحدث في نواديها عن كبريائه وظلمه، وصار الشبان منهم يتحدونه وينكرون عليه ما سمحت به نفوس آبائهم طائعة عقب ذلك الانتصار. أينكر قومه سابق فضله وينازعونه في الحق الذي بايعوه من قبل عليه؟ أيحسبون السيف الذي قضى به على قبائل اليمن قد صدئ في غمده من طول ما مر عليه من السلام؟ أم هو العقوق الذي يدفعهم إلى هذه الهمسات الحانقة التي تبلغ أذنيه مهما بالغ الهامسون أن تكون فيما بينهم سرا؟ أم هو الحقد الذي يملأ صدور منافسيه، ويحملهم على تناسي فضله والتجهم له؟
Bog aan la aqoon