ومحزونة بالبين طال بها الجوى ... علينا وشوق بالجوانح لداغ
تبيت وجفناها يباريهما الحيا ... وما تحت جنبيها من الفرش لداغ
إلى أن تسخى الدهر بالوصل بيننا ... ولاح ضياء للمسرات بزاغ
فلما انقضى التسليم ما بيننا بكت ... وفاض لها دمع من العين نشاغ
فقلت: ألم يإنِ السرور ولم يدر ... شراب للقيان الأحباء سواغ
فقلت: تذكرت الفراق غدًا فذا ... لقلبي عن تلك المسرات صداغ
فيا لك من حزن يباري مسرة ... بسهمين كل في المناضل بلاغ
ويا لك من نعمى ببؤسي مشوبة ... كما شاب بالدم المور نساغ
بل الشر في الدنيا على المرء صائل ... لجوج عليه الدهر والخير رواغ
على أن لطف الله للعسر دامغ ... كما الحق منه للأباطيل دماغ
واعلم أن أمور الدنيا مشوبة خيرها بشرها، وحلوها بمرها، ثم هي متبدلة " متغيرة " لا تكاد تثبت في حد، ولا تقف على مركز، وحكمة ذلك شيئان: أحدهما أن الدنيا لما جعلت مقدمة للآخرة يقع فيها الاستعداد لدخول الجنة والنجاة من النار جعلت مظهرًا لما هنالك من نعيم وعذاب، ودالة عليه، ومذكرة له، وقاضية بالترغيب والتنفيير، فلم تجعل خيرًا محضًا، وإلاّ نسي العذاب، ولا شرًا محضًا، وإلاّ نسي النعيم، وأيضًا جعلت دالة على أوصاف الرب المنشئ لها، سبحانه، من جمال وجلال لتحصل المعرفة لعباده، وهذا كله كلام واسع الذيل لو بسطناه، والإشارة تكفي.
الثاني أنها حادثة حادث ما فيها، وشأن الحادث أن يتبدل من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، ذاتًا وصفة وحالًا، ومكانًا وزمانًا، فلزم من ذلك التحول من عز إلى ذل، ومن غنى إلى فقر، ومن ارتفاع إلى اتضاع ومن سرور إلى حزن، ومن صحة إلى سقم، وبالعكس في الجميع إلى غير ذلك.
وفي الحديث: كانت العضباء، وهي ناقة للنبي ﷺ، معروفة لا تسبق، فجاء أعرابي على قعودٍ فسبقها، فقالوا، سبقت العضباء، وشق ذلك على المسلمين، فقال النبي ﷺ: " إنّ اللهَ لَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدّنْيَا إلاّ وَضَعَهُ ".
وقد جاء رجل إلى بعض الوزراء فقال له: إني رأيتك فيما يرى النائم طالعًا على رأس نخلة أو شجرة. ورأيت فلانًا يعني وزيرًا آخر كان يساميه في المرتبة أنه شرع في الطلوع ولم يصل بعد إلى أعلاها، وأراد بذلك أن يبشر الوزير ليستجديه فقال له الوزير، وكان ذا فطنة: يا أخي أذهب إلى فلان ليعطيك، فإنه في الزيادة، وأما أنا فقد انتهيت، وليس بعده إلاّ الانحطاط.
وقد أذكرتني " هذه الحكاية " حكاية أبي عبد الله وزير المهدي، وكان متمكنًا في منزلته عنده، ثم إن الخليفة زاره في داره ذات مرة، وكانت زيارة الخليفة لخواصه في عرفهم ليس فوقها درجة تطلب، فلما همّ بالانصراف أخذ الوزير يدفع له من نفائس الذخائر ما يليق بتجهيزه، ثم جعل يبكي، فقال الخليفة: ما يبكيك؟ لقد علمت أن فيك بخلًا تسميه حزمًا، فإن كان لك ما أعطيت أعفيناك منه، فقال أبو عبد الله: والله ما بكيت للمال، وللهدايا كلها أحقر شيء في حقك، ولكن علمت أن زيارتك لي درجة ليس فوقها درجة ترام، فأخاف الآن من السقوط، فلما رأى ذلك أشفق وأعطاه من العهود والمواثيق أن لا يغدر به، ولا يسمع فيه قول قائل ما اطمأن به، فلم يلبث إلاّ أيامًا يسيرة حتى سعوا فيه، فنكب، وقصته مأثورة والعامة يقولون:
ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان
وفي هذا المعنى الذي نحن فيه قيل:
توقى البدور النقص وهي آهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل
وإذا كانت الدنيا وما فيها عرضًا زائلًا لا ثبات له فلا ينبغي لعاقل أن يتبجح بخيرها ولا أن يجزع من شرها، بل إذا كان حلوها تتوقع بعد المرارة ومرها ترجى بعده الحلاوة فقد صار حلوها مرًا " ومرها حلوًا " وإذا كان المفروح به لا يبقى فهو بصدد أن يكون محزونًا عليه قل أو كثر، فكثرة الفرح بها إذن مقدمة كثرة الحزن، فلا ينبغي أن يلتفت إليه. وقال الشاعر:
على قدر ما أولعت بالشيء حزنه ... ويصعب نزع السهم مهما تمكنا
وقال الآخر:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئًا يخاف له فقدا
فإن صلاح المرء يرجع كله ... فسادًا إذ الإنسان جاز به الحدا
1 / 42