ومن غريب ما حكي أنه اتفق للفقيه الخليل الإمام ابن عرفة ﵁ وكان قد مرض فأصابه غشي قال: فجاءتني طائفتان: إحداهما عن يميني وجعلوا يرجحون الإسلام، والأخرى عن يساري وجعلوا يرجحون الكفر، عياذًا بالله تعالى. قال: فأخذ هؤلاء يلقون شبه الكفار ويلهمني الله تعالى الجواب عنها بما كنت عرفت من قواعد العقائد، فعلمت أن العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الانزعاج عن الوطن
خرجت في أعوام التسعين وألف من حضرة مراكش حرسها الله، وكنت إذ ذاك منزعجًا عن الوطن، مباياٌ للقطين والسكن، فلقيت أعرابيًا من هوارة، وهم حي من شبانة، فإذا هو قد انزعج عن وطنه في السوس الأقصى، فحدثني عن أحمد بن عبد الله بن مبارك الوقاوي أنه كان هبت له ريح فحسده قومه وقالوا عنه وهو في غربته حتى خرج عن وطنه إلى وداي السوس، قال: فجئته ذات مرة وهو في غربته، فقال لي: أين العرب وأين القوالون؟ قال: فقلت: هم بحالهم، لم يزالوا يقولون، قال ثم أنشد هو ملحونًا:
إلى برك لي الزمان أركبت عليه ... ولى راد المولى نلقاه عراضا
برك لي مركوب فإني ضاري به ... ما نحسبش أيامي علي مغتاضا
نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا
في قوله: مغتاضًا من الغيظ، وأبدل من الظاء " هنا " ضادًا، وكان هذا من عجيب الاتفاق، فإن هذا القول مناسب لأحوالنا معشر الثلاثة، أعني القائل والراوي والسامع، وقوله: " نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا " هذا هو أدب العبد، وهو الصبر لأحكام الله تعالى والسكون تحت مجاري الأقدار، قال تعالى:) وَاصْبِرْ لحُكْمِ رَبّكَ ... (، ونحوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال أئمة الدين لا يحصى.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحكم التكليفي والحكم التصريفي
واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم.
أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة.
وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك. ومورد الأول كلام الله تعالى أمرًا ونهيًا، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجادًا وإعدامًا على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلًا وتركًا وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضًا دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضًا دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى.
ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيرًا كان أو شرًا لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء.
وقال صاحب " الحكم العطائية ": " ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه " وقالوا: الوقت سيف، وأنشدوا:
وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنان
ولله الأمر من قبل وبعد
النفس والشيطان
وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحونًا:
يا رأسي عيبك بان ... والى عيبو ما يصيب ايدسو
قالوا علة ابن آدم شيطان ... وإنا نقول علة ابن آدم نفسو
قبل لا يزيغ إبليس ... اش يكون ابليسو
فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول: لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله.
1 / 29