إن الله جل اسمه، وهو الذي لا مثل له ولا نظير، ولا شبه ولا وزير، قد شرع لعباده التعلق بأسمائه الحسنى، ثم شرع لهم أيضًا التخلق بها في الجملة حتى إذا علمنا مثلًا أن الله تعالى حليم انتهض العبد في التحلي بالحلم فيكون حليمًا، كذا إذا علمنا أنه تعالى عليم أو وهاب أو صبور أو شكور انتهض العبد في الاتصاف بالعلم وبالجود وهكذا حتى يكون عليمًا وهابًا ومعلوم أن حلم العبد ليس كحلم الله وهكذا، ولكن له به نسبة هي توجب قرب العبد من الله تعالى في المعنى ومن هذا حديث " خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلىّ صُورَتِهِ " أي خلقه حيًّا عالمًا قديرًا، وليس كالجمادات والحيوانات العجماوات، وبهذا تأهل لأن يكون عبد الحضرة دونها.
ثم إن العباد المختارين يرضون لرضى الله، ويغضبون لغضبه، ويشتدون لأجله، ويلينون لأجله، وهكذا في سائر الأحوال والأفعال، قال تعالى في أصحابه ﷺ ورضي عنهم:) أشدّاءُ عّلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (وقال أيضًا:) أذِلّةٍ عَلى المُؤمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلىَ الكَافِرِينَ (وهو مسايرة ومشايعة في الأفعال والأحوال، وذلك شأن عبيد الملك، وإذا كان هذا في حق الله تعالى ففي حق الأنبياء أقرب وأيسر، فلا إشكال في صحة تعاطي أوصافهم وأخلاقهم وأفعالهم وسائر أحوالهم وإن لم تكن في ذلك مشابهة ولا مزاحمة للنبوءة، بل اتباع واقتباس وشبه توجب لصاحبها أيضًا القرب منهم، ولهذا قيل في الوارث: إنه من كان على قدم النبي ﷺ أي متحققًا في الاقتداء به قولًا وفعلًا وحالًا، وقال ﷺ: " الرُّؤْيّا الصالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَةٍ وترجمة ابن الجوزي أرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءةِ " فقد علم من لفظ الحديث أن الرؤيا الواقعة من غير النبي لعموم لفظ الصالح قد أخذت بنسبة من النبوءة، فهي منها غير أنه لقلة النسبة لا تقع بها مزاحمة، وقال الشيخ أبو يزيد ﵁: مثل ما أعطي الأنبياء مثل زق مملوء ماء أو عسلًا، ومثال ما أعطي الأولياء كلهم مثال قطرات تقطر من ذلك الزق، فانظر في هذا المثال فإن القطرات هي من ماهية ما في الزق قطعًا، ولكنها لقلتها جدًّا لا تقع بها مزاحمة، ولم يزل أهل الدين من العلماء العاملين والمجاهدين السالكين والواصلين العارفين يأخذون أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم من أحوال الأنبياء عمومًا وحال نبينا ﷺ خصوصًا، وهذا هو الشأن كله.
وقد يقع لهم مما هو في معنى الاقتباس والإشارة والتمثيل ما يزيد على هذا كما قال الشيخ أبو مدين ﵁ لأبي عمران موسى ابن يدراسن الحلاّج حين توجه إليه: " فإن أمن العرب " فأنت موسى وأنا شعيب، وإن موسى لما بلغ شعيبًا أمن.
ومن هذا ما وقع له ﵁ في القرآن وقد دخل عليه رجل من أهل الإنكار والمصحف بين يديه فقال للرجل: ارفع المصحف وافتحه وانظر إلى أول ورقة منه فإذا فيها:) الّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ (.
ومن هذا النمط كان ﵁ يقول: لا يكون المريد مريدًا حتى يجد في القرآن كل ما يريد.
وقال الشيخ أبو العباس المرسي ﵁ في شأن ابن عطاء الله الفقيه جد الشيخ تاج الدين: إن النبي ﷺ يوم ثقيف جاءه ملك الجبال فقال له: ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، قال فكذلك صبرنا لجد هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه يعني تاج الدين إلى غير هذا مما يكثر.
فما وقع من الحكاية بعد أن يكون قصد به اقتباس وضرب من المناسبة يكون كل شيء مما مرّ، وإلاّ فهو استطراد للعلم وتذكير بفائدة، وقد يقال على أنه مما مرّ، فأين منزلتك أي هذا المتشبع بما لم يعط من درجات الشيخين المذكورين ونحوهما حتى يصح منك ما صح منهم؟ فنقول: إذا انفصلنا من جانب النبوءة بخير فقد خرجنا عن مضيق الممتنع إلى فضاء لجائز، وهو رحب، ومن تشبّه بقوم فهو منهم كما قيل:
لم أكن للوصال أهلًا ولكن ... أنتمُ بالوصال أطعمتموني
لله الأمر من قبل ومن بعد
تقلبات الدهر
1 / 20