Mughalatat Lughawiyya
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
Noocyada
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - جمع المادة اللغوية
2 - الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر
3 - نشأة اللغة توقيف أم اصطلاح
4 - طبيعة اللغة
5 - اللغة والمنطق
6 - التغير اللغوي
7 - ازدواجيتنا اللغوية «العامية والفصحى»
Bog aan la aqoon
8 - تعريب العلم
9 - مزايا العربية
10 - ضرورة الإصلاح
تذييل
من مراجع الكتاب ومصادره
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - جمع المادة اللغوية
2 - الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر
Bog aan la aqoon
3 - نشأة اللغة توقيف أم اصطلاح
4 - طبيعة اللغة
5 - اللغة والمنطق
6 - التغير اللغوي
7 - ازدواجيتنا اللغوية «العامية والفصحى»
8 - تعريب العلم
9 - مزايا العربية
10 - ضرورة الإصلاح
تذييل
من مراجع الكتاب ومصادره
Bog aan la aqoon
مغالطات لغوية
مغالطات لغوية
الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
تأليف
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الأم الجليلة الجميلة الأزلية ... مصر،
وقد نال منها الوهن والشحوب،
داعيا الله أن يهون عليها آلام المخاض.
كلمة
Bog aan la aqoon
اللغة العربية لغة وعي ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن؛ للتأثير في اللغة الدولية المستقبلة.
لوي ماسنيون
مقدمة
سيكون هذا الخيط وصل ما بينك وبين الماضي فعد إليه، عد إلى نفسك؛ فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنت فيه، وحاضرك الذي أنت عليه.
أندريه جيد: ثيسيوس
تعاني الفصحى هذه الأيام وهنا وذبولا لم يعد محل جدال؛ فالركاكة أصبحت ظاهرة عامة ومناخا شاملا، واللحن في مبادئ اللغة أصبح قاسما مشتركا، لا بين عامة الناس فحسب، بل بين خاصة الأساتذة والإعلاميين والأدباء! وإن لغة تستعصي على سدنتها وأحبارها لهي لغة تفقد طبيعة اللغة ووظيفتها، وتستحق من الجميع وقفة للتدبر والمراجعة والتمحيص.
العربية لغة كأي لغة، تجري عليها نواميس اللغات، وتخضع لقوانين علم اللغة العام، غير أنها في ذلك تقف حالة خاصة بين اللغات ونسيج وحدها؛ فهي أعرض اللغات متنا وأطولها عمرا، العربية لغة جسيمة هائلة الجرم؛ لأسباب حتمت ذلك:
أولا:
أنها في الأصل ليست (بمعنى ما) لغة واحدة، بل هي المجموع الجبري للغة العربية المشتركة ولهجات القبائل الموثقة.
1
Bog aan la aqoon
ثانيا:
أنها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاع مترامية من الأرض، وقضت على لغات قديمة فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية ... إلخ) بعد أن نقل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أسلموا واستعربوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعا جبريا لعدة لغات عريقة!
ثالثا:
أنها صينت، برغم التوسع الجغرافي، من التفتت إلى لغات منفصلة؛ بفضل كتاب جامع وعقيدة موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنا من الزمن محتفظة بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تتح لأي لغة من اللغات.
من شأن هذه الظروف التاريخية الخاصة، وهذا الامتداد الجغرافي والزمني، وهذه البسطة الأفقية والرأسية، أن تجعل من العربية لغة ضخمة واسعة، صعبة بطبيعة الحال، صعوبة الاكتناز والثراء والغنى، وإذا كان قدرنا أن نبذل في تعلمها جهدا أكبر مما يبذله غيرنا في لغته فإن جهدنا فيها لا يذهب دون مقابل.
يتضمن الكتاب الذي بين يديك مراجعة شاملة لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلال وحسب؛ فنحتشد لنصرته، ونتنادى لإنقاذه. (1) أخطاء النحاة
في الفصل الأول والثاني تجد عرضا مفصلا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل، أخطأ النحاة في جمع اللغة وتقعيدها أخطاء منهجية معروفة، عرضنا لها بشيء من التفصيل، وأخذناها بحجمها، ووضعنا أمرها في نصابه.
قد تكون لبعض الأخطاء ثمار حلوة، وعواقب محمودة، ونواتج بعدية سائغة تتجاوز منشأها، وتصبح قيمة بحقها الشخصي! مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأ حل بالمحار؛ فتغمدته حظوة الزمن:
خلط اللهجات كان خطا منهجيا بغير شك، أفضى إلى لغة جسيمة داخلها عنصر اصطناعي؛ لغة متخمة بالمترادف والمشترك والأضداد والغريب؛ لغة لم يتحدث بها أحد في أي وقت على نحو طبيعي؛ ذلك أنها ليست لغة واحدة، كما قلنا، بل حزمة لغات، غير أن هذه الجسامة صارت وديعة الزمن؛ الزمن الذي يقصي ويصطفي، ويعجم ويجرب؛ فأخذها بالتنقيح والنخل، واجتبى منها الأجمل والأسلس، فاستوت في النهاية لغة بديعة قسيمة تامة الخلق خلابة البنيان.
وأخطأ النحاة حين استندوا إلى الشعر في أغلب شواهد اللغة، وهنا أيضا لا نعدم أثرا إيجابيا لهذا الخطأ المنهجي؛ فاللغة التي استمدت مادتها وشواهدها من الشعر لا يمكن إلا أن تكون «لغة شاعرة»، تؤثر النغم وتكره الثقل، وتعرف الحذف والإيجاز واللمح، ويدخل المجاز منها في الصميم.
Bog aan la aqoon
2
ثم عرضنا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها. لم يكن الإطار المعرفي الذي يفكر داخله النحاة ليسمح لهم بأكثر مما رأوه، واستثنينا عبد القاهر الجرجاني الذي كانت نظريته في «النظم» استباقا مدهشا لكثير من الأفكار الفلسفية واللغوية المعاصرة.
ثم انتقلنا في فصل «اللغة والمنطق» إلى قضية النحو العربي، وبينا أن تاريخ النحو كان تاريخ صراع بين ثقافتين: ثقافة العرب وثقافة الموالي، كتب فيه النصر، للأسف، لثقافة الموالي الذين بالغوا في تضخيم النحو وأثقلوه ومنطقوه، وجمدوا اللغة وأبعدوها عما ألفته في «بيت أبيها» من رحابة وسماحة وسجية، وهذه تذكرة تحمل في ذاتها دعوة إلى إعادة «تعريب النحو»! وتخليصه من اللحاء الأرسطي الثقيل، الذي أضر بالعربية وخنقها وأوحى إلى الناس أن يهجروها.
وفي فصل «التغير اللغوي» نوهنا إلى ظاهرة التغير وعرضنا، بشيء من التفصيل، لأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم بين فكرة «التغير» وفكرة «اللحن» في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين، وبينا أن الخطأ المشهور لا يعود خطأ؛ إذ إن شرعية اللغة الشيوع! وعرضنا نماذج من «تصحيح الصحيح»! جعلنا منها فرصا لتصويب الفكر قبل الكلمات، وبينا أن كثيرا مما يقال له «خطأ» في اللغة هو خطأ اللغويين أنفسهم هواة «قل ولا تقل»، الذين ثقل على أذهانهم الركام الأرسطي فعزلهم عن السليقة العربية، وأفقدهم الفطرة اللغوية فجعلوا يخطئون الناس ويبثون فيهم اليأس من الفصحى والتوجس منها.
وفي فصل «العامية والفصحى» عرضنا لقضية ازدواجيتنا اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش، وبينا أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغة أجنبية.
وفي فصل «تعريب العلم» اقتحام لهذه المسألة الشائكة المعلقة، بينا فيه أن التعريب ضرورة ملحة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب هو انتحار جماعي بشع، وتخل عن أمانة تاريخية علينا أن نحملها ولا نشفق منها.
وفي فصل «مزايا العربية» بينا، بحيدة وموضوعية، ما تتمتع به العربية من فضائل بنيوية ودلالية، وعرضنا لقضية غياب فعل الكينونة ودلالته الفلسفية، واحتمال وجود منهج علمي وفلسفي مضمر في قلب العربية علينا أن نستكشفه ونستوحيه.
وفي فصل «ضرورة الإصلاح» عرضنا لمعنى الإصلاح وخصائصه، واقترحنا ما أسميناه «نظرية الاستعمال» كوصفة شاملة للإصلاح اللغوي في مجال التقعيد والتعليم والتعلم، وأشرنا بسهم إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسسها، مثلما أسس دانتي الإيطالية، تواتينا في ذلك رياح الكوكبية وقوى العولمة التي تحل لنا، من حيث لا نحتسب، مشكلة الحرف العربي، وتعكس الميول اللغوية القديمة؛ إذ تقرب اللهجات وتوحد اللغة وتمنع انشعابها، وتيسر نشرها وتعلمها، وتلقيها على مسامع الناس بالغدو والآصال، وقلنا: إن تلك فرصة سانحة علينا أن ننتهزها ولا نضيعها. (2) إحياء التراث
ليس ثمة تناقض بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما قد يبدو للنظرة السطحية العجلى، فالحق أن العربية لغة معمرة، تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل جذرها الثلاثي حاضرا عتيدا، ويظل ماضيها موصولا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.
بإهاب كل مجدد كبير كلاسيكي كبير، وفي طي كل تجديد شيء من الإحياء! وإن جيلا نسي ماضيه لهو جيل شائخ لا مستقبل له. ليس إحياء التراث غيابا في الماضي أو اغترابا عن الحاضر وغفلة عن الآتي؛ فلا بناء بغير دعائم، ولا سموق بغير جذور، ليس إحياء التراث ترفا بل ضرورة، ولا سباتا بل هو الصحو واليقظة والإفاقة، إنه ضرورة لكل أمة تريد أن تسترد وعيها وتستعيد توجهها وتتعرف خط سيرها. إن حاضرا بلا ماض هو ذهول وشرود وفقدان ذاكرة، وضرب في التيه بعد ضياع الخرائط واشتباه الطرق والتباس الأمام والوراء.
Bog aan la aqoon
ألفاظ مهجورة: من التجديد أن نبعث بعض الألفاظ المهجورة التي هي أكثر إسعافا لنا من المشهور وأكثر حداثة من الحديث! ألست ترى أن نصف ألفاظ العلم هي جذور وضمائم لاتينية ويونانية كانت ميتة فأحيتنا؟! كذلك الأمر في العربية:
هناك ألفاظ نهجرها لأننا لم نجدها ذات نفع لنا أو غناء في حياتنا الجديدة.
وهناك ألفاظ تهجرنا لأنها لم تجدنا أكفاء لها، ولما كانت تذخره لنا من ذهب المعنى.
هناك ألفاظ تموت عنا.
وهناك ألفاظ نموت عنها. (3) خطورة القضية اللغوية
تولد كل الأجنة عارية إلا جنين الفكر فيولد متلبسا باللغة.
تعست فكرة رانت على البشر دهورا تقول إن اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين، تعرض له من خارج وهو تام مكتمل كأنها غلاف الهدية أو كساء البدن أو وعاء السائل.
إنما شأن اللغة أبلغ من ذلك خطرا وأبعد نفوذا وأشد هولا.
اللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك أن تفكر تفكيرا مركبا ثريا بلغة ساذجة فقيرة.
اللغة هي «دالة الفكر» ونماذج الرؤية، بحيث لا تملك أن ترى من العالم إلا بقدر ما تسمح لك لغتك أن ترى.
Bog aan la aqoon
اللغة هي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا بجانبك الصواب إذا قلت إن حجم وجودك هو حجم لغتك.
هكذا يتبين لنا مبلغ السفه الذي نأتيه إذا نحن تخلينا عن هذه اللغة الجميلة الجليلة بعد كل الذي بلغته من الثراء والارتقاء.
التعريب شرط الحداثة والتغريب حياة بالانتساب.
من الحذق حين نثاقف العالم الغربي المتحضر أن نأخذ عنهم، ونهضم زادهم، ونتمثله تماما، ونحيله، بحكم التمثل ذاته، إلى كياننا وبنيتنا، لا أن نمنحهم أنفسنا ونتقمصهم تقمصا رخيصا، ونضحي بحقيقتنا دون مقابل.
آية الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم، فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف وتتمثله تحوله إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف! كذلك الحال في هضم الفكر الغربي وتمثله، فمن شأن الفكر الذي تستوعبه بالفعل أن يتعضى فيك ويذوب في كيانك ويصطبغ بصبغتك؛ فلا نكاد نتبين من ملامحه الأولى شيئا إلا من طريق الظن والاستنباط، فهو يغيرك ويطورك فيما يتشتت داخلك ويتبدد فيك.
ذلك هو الفهم الحق والتمثل الأصيل.
وحالما تبينا في خطابك فكر غيرك كما هو، وتجلت لنا ملامحه بتمامها، فهو الدليل على أنك لم تقدر على هذا الفكر ولم تفهمه، وإن كنت تستظهره وتردده، إنه الفكر الذي لم تستوعبه بل استوعبك، ولم تهضمه بل هضمك.
ذلك هو التقليد السطحي والتقمص الرخيص.
لكي نقول: إننا استوعبنا الحداثة حقا يتعين أن نرى الحداثة استعربت وتحدثت العربية، ولكي نقول: إننا فهمنا العلم حقا؛ ينبغي أن يكون لدينا ما يثبت أن العلم نفسه فهم العربية، أي تعرب وتوطن في معجمنا وطاب له المقام! وما دون ذلك هو استعمال من الظاهر، هو تمسح وتقول وتخلف مقلوب.
إن لدينا منتسبين كبارا يعيشون بيننا في الشرق كمواطنين بالانتساب في العالم الغربي، يتلبسون بالنموذج الأوروبي الأمريكي، ويتشدقون في مجالسهم بالإنجليزية، ويوقعون بها أعمالهم ورسائلهم، إن أسلوبهم يثير الشفقة، وإنجليزيتهم، بحكم الانتساب ذاته، ركيكة عجماء، يظن هؤلاء أنهم متحضرون مجددون، وهم غارقون إلى الأذقان في تقليد آخر، لقد نسوا لغتهم التي لن يبدعوا إلا بها، واستعاروا لغة غيرهم التي لن يعرفوها إلا بالنقل والوساطة، ولو عرفوا من اللفظ معناه المباشر فإنهم في عمه عن شحناته وظلاله، وإيحاءاته وتداعياته، وتجلياته الثانية وأقانيمه الأخرى، ومنشئه في التاريخ ومسيره في الزمن، وهم بذلك يخسرون البعد الثالث للغة، ويتبنون لغة مسطحة مصمتة لن يفكروا بها إلا تفكيرا مسطحا مصمتا.
Bog aan la aqoon
إن حياة الانتساب هذه تضحية بالحياة وتنازل عن الإرث ونفي للذات، ووقر وفقر وخزي، لقد باع أصحابنا أنفسهم مجانا وصاروا مسوخا لا تروق أعين الشرق أو الغرب، واختاروا أن يكونوا أذيالا لا عمل لها إلا التبعية، ولا مكان إلا المؤخرة. (4) في ظل الفصحى
اللغة «جين» آخر.
فكما أن الجينات شفرات أو مخططات يسير وفقا لها الكيان البشري جسميا ونفسيا، فإن اللغة شفرة ومنظور ونماذج رؤية تشكل وعينا وإدراكنا الخاص للوجود، وتحكم وجهتنا في الفكر والفعل، وطريقتنا في تصور ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
بهذا المعنى تكون العروبة قرابة رؤية بقدر ما هي قرابة دم، وتكون الدعوة إلى الفصحى دعوة إلى الوحدة، وإلى لم الشمل، وإلى اجتماع الإخوة بعد افتراق وشتات وغربة.
عادل مصطفى
25 / 2 / 2010
الفصل الأول
جمع المادة اللغوية
من يتأمل علوم العربية، من نحو وصرف وأصوات ومعاجم وعروض ... لا يسعه إلا الإجلال لمن ابتكروا هذه العلوم من العدم، وشيدوا هذه الصروح من الصفر، بعزم صادق وإخلاص نادر، وحذق منقطع النظير.
1
Bog aan la aqoon
على أن غاية الإجلال لهذا السلف العظيم أن نقتدي به في الخصلة التي جعلت منه سلفا عظيما؛ في اجتهاده وابتكاره؛ فنجتهد نحن أيضا ونبتكر، وننخل ونغربل، ونراجع ونصوب. (1) الفصحى (المشتركة) واللهجات
يبدأ المشهد اللغوي بجزيرة العرب، نجد والحجاز ومنطقة الفرات، في القرن الخامس والسادس الميلاديين، وقد انتظمتها لهجات محلية متعددة، تتحدث بها قبائل متفرقة أدى بها اتساع الصحراء إلى عزلة نسبية، ولما كانت تلك القبائل على عزلتها تتبادل التجارة وتتلاقى في الحج والأسواق والندوات، كان لا بد من وجود لغة «مشتركة» يتفاهم بها الناس جميعا على اختلاف قبائلهم، كانت مكة، أم القرى، هي مهوى الأفئدة وملتقى الحج والتجارة وأسواق الخطابة والشعر، وقد كفل لها نشاطها التجاري وثراؤها الاقتصادي ارتقاء حضاريا وسلطانا سياسيا؛ الأمر الذي جعل اللهجة القرشية هي اللهجة الغالبة في تكوين اللغة المشتركة، وإن لم تتطابق معها تمام التطابق، هذه الفصحى المشتركة هي التي يتخذها الخطباء والشعراء، وهي التي تكتب بها المعاهدات وتتخذ في مواقف الوفادة والتشاور والحروب والعبادة، وقد نزل بها القرآن الكريم ليفهمه العرب جميعا على اختلاف لهجاتهم المحلية، وبذلك سادت المشتركة واستتبت وازدهرت وارتقت ارتقاء عظيما.
نحن إذن بإزاء مستويين لغويين متباينين: المستوى اللهجي من جهة، ومستوى الفصحى أو المشتركة من جهة أخرى، ومن العبث وإهدار الطاقة أن نسأل الآن أيهما السابق على الآخر: أهي لهجات تبلورت منها المشتركة (مرتكزة كثيرا على لهجة قريش)؟ أم هي المشتركة تفرعت عنها اللهجات شأنها شأن غيرها من اللغات الكبرى كاللاتينية والجرمانية؟ ذلك أمر مختلط ملتبس غامض يثير فيضا من الحدوس والتخمينات والفروض، ولا يؤدي إلى نتائج حاسمة صلبة.
ثمة موقفان متمايزان أمام الباحث في أمر العلاقة بين المشتركة واللهجات:
الموقف الأول:
أن يعتبر كلا منهما مستوى خاصا ولا يخلط بينهما بالرغم من إدراكه للتأثير المتبادل بينهما؛ فكل لهجة مستوى خاص ينبغي ألا يختلط بغيره من اللهجات ولا بالمشتركة، كل لهجة مستوى متفرد في دلالة الألفاظ وفي الأصوات والصيغ والتراكيب.
والموقف الثاني:
أن يعتبر المشتركة هي اللهجات نفسها، فتكون المشتركة (الفصحى) هي المجموع الجبري ل «لغة قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.»
الموقف الأول هو الموقف العلمي الصحيح (ما ينبغي أن يكون)، ولقد راود بعض النحاة على نحو عارض لا يشكل اتجاها أو منهجا، والموقف الثاني هو الموقف الخاطئ من الجهة العلمية، وهو الموقف الذي اتخذه النحاة مع الأسف (ما هو كائن)، فأدى إلى اضطراب الدراسة وتعقد النحو، فتجد في المسألة الواحدة وجوها، وتجد لكل وجه توجيها، وتجد لهذه الوجوه والتوجيهات سندها في اللغات واللهجات.
لقد اتخذت اللهجات تكأة في النحو العربي لكثير من التفريعات التي تتدارك على القاعدة العامة أو تنقضها تماما، مما زاد من تعقيد النحو وصعوباته. قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف تصنع فيما خالفتك به العرب وهم حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. وتفسير هذا المسلك العلمي هو فهم علمائنا للصلة بين الفصحى واللهجات، واعتبارهم الفصحى هي نفس اللغات المتعددة مما أطلقوا عليه أنه «كلام العرب»، ولا تمكن دراسة هذا الحشد الكبير المختلط إلا بهذه الطريقة، وهكذا جاء النحو العربي وفيه قواعد عامة ذات احتمالات ولغات تتدارك عليها أو تنقضها، مثال ذلك أن العرب بعامة تقف على المنصوب المنون بإبدال التنوين ألفا، ولكن أبا الحسن قطرب وأبا عبيد والكوفيين ذكروا أن من العرب من يقف على المنصوب المنون بالسكون، فيقول «رأيت زيد»، وهي لهجة بعض فروع ربيعة. إن الفصحى المشتركة لم تحمل هذا ليشيع ويوفق عليه عرفها، ولكن النحاة حملوه ودرسوه من اللهجة، ووضعوا له قاعدة تمثل ظاهرة ضمها النحو العربي، ذاك الذي يفترض فيه أنه للفصحى أساسا.
Bog aan la aqoon
2 (2) سمات اللغة المشتركة
تتميز أي لغة مشتركة بصفات معينة؛ الأولى: أنها فوق مستوى العامة، بمعنى أن العامة لا يستعملونها في خطابهم، وإذا سمعوا متكلما بها رفعوه فوق مستوى ثقافتهم، فاللغة المشتركة العربية التي نظم بها الشعراء وخطب بها الخطباء، لم تكن في متناول العرب جميعا، بل كانت في مستوى أرقى وأسمى مما يمكن أن يتناوله العامة، وحتى الإعراب الذي يعد أهم مميزات الفصحى لم تكن كل العرب تقدر عليه، روي عن ابن أبي إسحق: «العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق فيه.» وعن يونس: «العرب تشام الإعراب ولا تحققه.» وعن الخشخاش بن الحباب: «العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد.»
3
والسمة الثانية للغة المشتركة: أنها لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية بعينها، بمعنى أن الخطيب باللغة المشتركة لا يكاد السامع يكشف عن بيئته المحلية؛ فاللغة المشتركة لغة منسجمة موحدة لا يمكن أن تنتمي إلى بيئة خاصة من بيئات الجزيرة العربية، فلا يحق لنا أن نقول مثلا: إن اللغة المشتركة هي لغة قريش أو تميم أو غيرها من قبائل العرب، بل هي مزيج من كل هذا، تكونت له شخصيته وكيانه وأصبح مستقلا عن اللهجات، وإن التمس هذا المزيج في نشأته بعض صفات هذه اللهجات بعد هضمه، من ذلك أن المشتركة العربية تحقق الهمز، بينما لهجة قريش نفسها تسهيل الهمز، ومن ذلك «أن شعر الشعراء من ربيعة لا يعرف ما اشتهر عن لهجتها من الكشكشة، وشعر الشعراء من تميم لا يعرف العنعنة»،
4
وفي ديوان الهذليين لا نكاد نجد ما عرف عن لهجة هذيل من فحفحة واستنطاء ونحو ذلك.
5
والصفة الثالثة للغة المشتركة: أنها ليست لغة سليقة، ومعنى السليقة أن تتكلم لغة من اللغات بغير شعور بما لها من خصائص، وباستحالة أن تخطئ فيها دون أن تدرك خطأك وتتداركه على الفور. وأكبر دليل على أن الفصحى لم تكن لغة سليقة لكل العرب، تلك الروايات الكثيرة التي تشير إلى وقوع اللحن من العرب، قبل الإسلام وبعده. إن صاحب اللغة الذي يتكلمها بالسليقة، كما يقول د. إبراهيم أنيس، يستحيل عليه الخطأ في ظواهر تلك اللغة دون أن يدرك أنه أخطأ؛ فالإنجليزي لا يخطئ في كلامه إلا إذا قسنا كلامه بمستوى لغوي آخر فوق كلام الناس، ونحن في كلامنا بالعامية لا نخطئ، فإذا زل اللسان في لحظة ارتباك أو تلعثم رجعنا عن هذا الزلل في لمح البصر، وأدركنا أننا وقعنا فيه، ولا يتصور وقوع الخطأ من صاحب السليقة اللغوية في أي ظاهرة من ظواهر لغته: في تركيب أصواتها أو في ترتيب الكلمات بجملها، أو في صيغها، أو في طريقة النفي والإثبات، أو في طريقة الاستفهام والتعجب ونحو ذلك.
6 (3) تشييء السليقة اللغوية
حين يتعلم الطفل لغة أهله بالمحاكاة والمران، والمحاولة والخطأ، فإنه يحتشد ويعمل ذهنه فيما ينطق له ويركز فيما يقول، وإذا أخطأ فقد لا يعي أنه أخطأ حتى يظهره الكبار على خطئه، حتى إذا اكتمل تعلمه وتمت له السيطرة على لغته فإنه يتحدث بها من غير حاجة إلى احتشاد وتركيز وتيقظ، ودون وعي بخصائصها وتوجس من أخطائها، هنالك يقال إنه يتكلم ب «السليقة»، السليقة إذن هي تمكن المرء من لغة ما بحيث يتكلم بها عفويا وتلقائيا ودون التفات منه إلى قواعدها وضوابطها. يتحدث الطفل لغته الأم بالسليقة، وبوسع المرء أن يتمكن من لغة أجنبية ويتكلمها بالسليقة إذا أولاها اهتماما متصلا وثابر على تعلمها ولم ينقطع عن التدريب والممارسة.
Bog aan la aqoon
يقول ابن خلدون: «اعلم أن اللغات كلها ملكات بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال؛ بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصودة للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال، وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم.»
7
السليقة إذن ليست «شيئا»
Res
أو «كيانا»
Entity
سحريا يرتبط بالبداوة أو بالجنس العربي ويمتنع على غير العربي مهما أخلص السعي وواصل التعلم، ولكن قدماء اللغويين العرب كان لهم رأي آخر: فقد سيطرت عليهم فكرة أن الكلام بالعربية لا يستقيم لغير العربي، وكأن في الأمر شيئا سحريا هو سر السليقة العربية؛ شيئا يجري في دماء العرب ويختلط برمالهم ودمنهم، يورثه الآباء أبناءهم وترضعه الأمهات أطفالهن في لبانهن، إنه «تشييء»
Reification
أو «أقنمة»
Hypostatization
Bog aan la aqoon
السليقة إن جاز التعبير، وهو الذي جعل نحاة الكوفة يأخذون اللغة عن أي عربي يصادفونه، ويأخذون حتى عن الأطفال والمجانين (والنساء) كما ذكر السيوطي في «المزهر»، وهم بذلك قد خلطوا بين مستويات الأداء المختلفة حيث كان ينبغي الفصل بينها. «على أن النحاة قصروا هذه السليقة على قوم معينين وعلى زمن معين وبيئة معينة، فنشأ في مخيلاتهم ما يمكن أن يعبر عنه ب «ديكتاتورية الزمان والمكان» مغالين في الحرص على العربية والاعتزاز بها.»
8 (4) ديكتاتورية الزمان
جمع قدماء النحاة المادة اللغوية التي تنتمي إلى فترة تمتد من منتصف القرن الثاني قبل الهجرة وتنتهي في منتصف القرن الثاني الهجري أو نهايته، والحق أنه من الصعب، استنادا إلى عدد من الشواهد، أن نقبل رأي من ذهب إلى أن حركة العمل اللغوي الميداني قد توقفت في القرن الثاني الهجري، وبدأت ملاحظة التغير الذي يعتري الاستخدام اللغوي بعد القرن الثاني، إذ نرى مثلا أن الأزهري (ت. 370ه) في القرن الرابع قد اعتمد في معظم المادة التي وردت في معجمه «تهذيب اللغة » على النقل المباشر، إذ إنه جمعها من البدو الذين عاش بينهم فترة من الزمن، ونميل إلى ما ورد لدى المصادر العربية من أن الاستشهاد باللغة (العمل اللغوي الميداني) قد انتهى في القرن الرابع،
9
وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قرارا مؤداه «أن العرب الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني وأهل البدو من جزيرة العرب إلى نهاية القرن الرابع»،
10
باعتبار أن لغة العرب بقيت نقية خالصة في البوادي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي الحواضر حتى نهاية القرن الثاني الهجري، قبل أن يعتريها الفساد ويتسرب إليها اللحن.
ولا يخفى على القارئ، فضلا عن ديكتاتورية الزمان، أن هذا خلط آخر: خلط عصور، فقد امتدت الفترة التاريخية للغة المجموعة حوالي خمسة قرون، وتعامل النحاة مع هذه المادة اللغوية على أنها تنتمي إلى نظام لغوي واحد، وتعذر عليهم أن يدركوا أن اللغة ظاهرة اجتماعية تتغير عبر الزمن، وأن من الخطأ أن تأخذ مادة لغوية مستقاة من القرن الثاني قبل الهجرة مأخذ مادة من القرن الرابع الهجري وتدرجها في نظام لغوي واحد (أو «حالة» لغوية واحدة بتعبير فرديناند دي سوسير). لقد فطن النحاة إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل خارجية فحددوا فترة الاستشهاد، غير أنهم فيما يبدو لم يفطنوا إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل داخلية في اللغة ذاتها، وآية ذلك أنهم أخذوا شواهدهم من فترة زمنية هي نفسها كافية لحدوث تغير كبير.
لم يشأ العرب، كما يقول د. كمال بشر، «أن يأخذوا عامل الزمن في الحسبان؛ فلم يعترفوا على ما يبدو بأن اللغة ظاهرة اجتماعية قابلة للتطور على مدى الأيام، وقد جاءت خطة دراستهم العامة على وفق هذا التصور غير الدقيق.»
11 (5) ديكتاتورية المكان
Bog aan la aqoon
في منتصف القرن الثاني الهجري وما تلاه ازدهرت دراسة اللغة، ودأب العلماء والدارسون على الترحل إلى الأعراب في مواطنهم للأخذ عنهم، وقام الأعراب في المقابل بالوفادة على الحضر لتقديم المادة اللغوية للدارسين والعلماء.
لم يأخذ النحاة بلهجات القبائل كيفما اتفق، بل تواصوا على الأخذ من قبائل بعينها، هي «القبائل الموثقة» التي يصح الأخذ عنها، وعلى ترك قبائل أخرى؛ لفساد لغتهم. وللفارابي (ت 350ه) نص مشهور في ذلك ورد مختصرا جدا في كتاب «الحروف»، ومفصلا في «الاقتراح» و«المزهر» للسيوطي، يقول الفارابي: «والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلا، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.»
تتصف القبائل الموثقة بأنهم يعيشون في وسط الجزيرة العربية بحيث تحققت لهم العزلة، والعزلة مظنة النقاوة والخلوص، وأنهم يعيشون في البوادي لا الحضر، والبوادي مظنة العزلة ويندر أن يجتازها الأغراب، أما القبائل غير الموثقة فتقع في أطراف الجزيرة فيكثر اتصالها بغير العرب، أو تقع في الحضر فيكثر تعرضها لوفادات الأجانب ومخالطة الأعاجم، وبصفة عامة تكون هذه القبائل ما يشبه السور الخارجي للقبائل الموثقة. يقول ابن جني في «باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر»:
12 «علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلاط والفساد والخطل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛
13
لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا، وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه»،
14
ويقول السيوطي في «الاقتراح»: «ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكوامخ.»
يختلف البصريون عن الكوفيين في منهج البحث والمعيار الذي حددوه للمصدر اللغوي الذي يؤخذ عنه؛ لذا اختار البصريون قبائل بعينها للأخذ عنها، وتركوا قبائل أخرى باعتبارها فاسدة اللغة، وأسموا لغاتها باللغات الشاذة التي لا يؤخذ بها، على حين كان الكوفيون يوثقون كل القبائل على حد سواء، ويحتجون بكل ما يؤخذ عنها، ويؤسسون عليه نحوهم وقواعدهم.
Bog aan la aqoon
يرى د. رمضان عبد التواب أن «الفرق بين اللغة المشتركة واللهجات لم يكن واضحا في أذهان اللغويين في هذه الحقبة من التاريخ وضوحا تاما؛ ولذلك سعى البصريون للأخذ عن قبائل معينة، وهدفهم الوصول إلى تقعيد اللغة الأدبية المشتركة، غير أنهم لم يفرقوا فيما أخذوه عن هذه القبائل بين تلك اللغة المشتركة ولهجات الخطاب، ومن هنا جاء الخلط والاضطراب، ورأيناهم يؤولون كل مثال شذ عن قواعدهم. ولم يكن الكوفيون أقل منهم حظا في الاضطراب والخلط؛ لأنهم أخذوا اللغة عن كل العرب، ولم يفرقوا كذلك بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب.»
15
ويقول في حديثه عن المعاجم العربية: «تخلط هذه المعاجم كثيرا بين مستوى العربية الفصحى واللهجات القديمة، في اللفظ والدلالة، بلا إشارة إلى ذلك في الكثير من الأحيان، مثل: السراط والصراط والزراط، بمعنى الطريق مثلا، وكذكرها لكلمة «العجوز» مثلا أكثر من سبعين معنى، من بينها: الإبرة، والجوع، والسمن، والقبلة، واليد اليمنى، فمن المحال أن تكون هذه المعاني جميعا مستعملة في الفصحى.»
16
يقول ابن جني في الخصائص: «إذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله، وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد، نحو قولهم: هي رغوة اللبن، ورغوته، ورغوته، ورغاوته، ورغاوته، ورغايته ... وكقولهم: جئته من عل، ومن عل، ومن علا، ومن علو، ومن علو، ومن علو، ومن علو، ومن عال، ومن معال، فإن أرادوا النكرة قالوا: من عل، وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة، وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات، اجتمعت لإنسان واحد، من هنا ومن هنا، ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر؛ فقال أحدهما الصقر (بالصاد)، وقال الآخر السقر (بالسين)، فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر.»
17
لقد وقع النحاة في خطأ منهجي كبير إذ خلطوا بين اللهجات ولم يميزوا بين هذه اللهجات؛ فاضطرهم ذلك في كثير من الحالات إلى التأويل والتخريج الذي أظهر اللغة بمظهر الاضطراب، وخلطوا بين مستوى المشتركة وبين اللهجات معتبرين أن المشتركة تشمل لغات هذه القبائل المتعددة؛ فأدى ذلك إلى بناء قواعد المشتركة (الفصحى) على ظواهر لهجية، وإلى اختلاف الآراء حول المسائل اعتمادا على ما ورد من بعض القبائل، وإلى تضخم المعجمات القديمة واشتمالها على الحوشي المتروك، وإلى ظاهرة الترادف المفرط، والاشتراك، والأضداد، وكثرة الشذوذ، واضطراب أوزان الفعل الثلاثي وصيغه المختلفة. (6) مسألة الثقة بالرواية
من أوجه النقد الشهيرة التي استهدفت عملية جمع اللغة عدم توافر الثقة بالرواة ثقة تشابه ما توافر لرواية الحديث، فقد قيل إن بعض اللغويين كان غير موثوق به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان، أو عن مجانين، أو كان راوية من أهل الأهواء، وكان بعض الجامعين لا يتحرى الصدق بل يتيح لنفسه أن يضع، وقد ورد مثل هذا النقد على أقلام المحدثين والأقدمين معا. في مجلة مجمع اللغة العربية ج8 ص209 يقول د. أحمد أمين إن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه، بل يدون كل ما يسمع سواء سمع من ثقة أو غير ثقة. وفي كتاب «اللغة بين المعيارية والوصفية» يقول د. تمام حسان: «وليس ببعيد أن يكون الأعراب الضاربون في الصحارى التي طرقها الرواة قد فطنوا إلى ضالة هؤلاء الناس، وإلى أنهم يجرون وراء غريب اللغة أو غريب التراكيب، ويحسنون إلى من ينيلهم هذا المطلب، وليس ببعيد كذلك أن بعض الأعراب قد اتخذ من التجارة بالغريب وسيلة للرزق ليس من صالحه أن تفنى، فإذا ما نضب معين ما عنده من اللغة عمد إلى الاختراع وبالغ في ذلك، ولا سيما حين فطن إلى سرور الرواة بما يقول واحتفالهم به ... على أن الرواة واللغويين أنفسهم لم يكونوا في بعض الأحيان فوق مستوى الشبهات، فقد كان الرواة يأخذون من كلام الأعراب ما وافق هدفهم، ويتركون منه ما لا يعجب به الناس في الحاضرة، ولا ينفع اللغويين، أو لا يحفل به اللغويون، لبعده عما قعدوه من قواعد.»
18
ثم يشير إلى ظاهرة اختلاق الروايات والنصوص التي تسد في التقعيد فراغا صودف وحاجة عرضت. جاء في العقد الفريد عن الأصمعي: «ورأيت أعرابيا ومعه بني له صغير ممسك بفم قربة وقد خاف أن تغلبه القربة، فصاح يا أبت! أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.» يعلق د. تمام على هذا الخبر قائلا: «ولست أشك في أن هذا الخبر مختلق، بل إن هذا النص الذي نطق به الغلام كما يرويه الأصمعي أو من ألصق به هذا الخبر ليبدو كأنه منتزع من صفحة من صفحات كتب القواعد تتكلم عن إعراب الأسماء الخمسة، فالمسألة إذن ليست مسألة موقف اجتماعي يسجل كما هو وتأتي النصوص فيه جزءا من هذا الموقف ، لا بل إن النص والخبر هنا يخلقان الموقف المصطنع الذي يدور الكلام فيه حول إعراب كلمة بعينها، ولا يبدو لنا نصا لغويا ذا عنصر اجتماعي واضح.»
Bog aan la aqoon
19
نحن هنا، كما في كثير من المواضع في تراثنا، أمام قلب لمنطق الأمور و«وضع للعربة أمام الحصان»
Hysteron proteron
أمام قاعدة تلتمس لها الشواهد، لا شواهد تستخلص منها القاعدة، أمام نص «احتيالي»
Ad hoe ، «قد» على مقاس المشكلة التي «قيض» لحلها؛ ذاك موقف حرج يبتلي أخلص العلماء، ويزين له أن يرشو ضميره ويختان نفسه. (7) ثقوب في المنهج
في بحث للدكتور محمد كامل حسين في مجلة مجمع اللغة العربية بعنوان «أخطاء اللغويين»،
20
يقول إنه «لا يستسيغ أن نستشهد بكلام أمة (عبدة) بلهاء؛ لأنها لم تخالط الأعاجم، وأن نقبل كل ما يقوله الأعرابي مهما يكن حظه من الذكاء، وألا نثق بما يقوله الجاحظ بذكائه وعلمه، وهناك ظاهرة أخرى أدى إليها تأخر التدوين في تاريخ اللغة العربية، والرغبة الملحة في جمع اللغة من أفواه الناس قبل أن يفسدهم الاختلاط بالأعاجم، ذلك أن اللغويين جمعوا كل ما سمعوه من العرب على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم، وسموا ذلك كله اللغة العربية، وهي مجموعة لغات تتفق في أمور كثيرة وتختلف في أمور كثيرة، وهذا هو التعليل الوحيد لوجود بابين للفعل الواحد. ولا أظن أن الرجل من تميم كان ينطق بالفعل يوما من باب «نصر» ويوما من باب «فتح»، وإنما هو اختلاف اللهجات، كما يقول أهل القاهرة «سمع» الكلام بكسرتين وما يقول أهل الشمال «سمع» الكلام بفتحتين، ولا أدري داعيا للتمسك بالبابين للفعل الواحد إلا أن يكون هناك اختلاف في المعنى كما نراه في فعل «حسب» و«كبر»، ولعل في هذا أيضا تعليل المصادر المتعددة للفعل الواحد، ولعل من واجباتنا أن نحدد لكل مصدر معنى يختلف عن الآخر، فيكون «الإياب» من السفر و«الأوب» من الخطأ والذنب.»
ويمضي د. كامل حسين في تبيان جرائر الخلط في اللهجات فيقول: «وهذا أيضا تعليل أسماء الأضداد، وليس معقولا أن القبيلة الواحدة كانت تسمي الأسود والأبيض جونا، وإنما هو من اختلاف لغات القبائل ، ليس علينا أن نتابع اللغويين فيما فعلوه من جمع اللهجات كلها، ومن إغفالهم النص على أن لهجة بعينها كانت لقبيلة دون أخرى، وهم لم يذكروا شيئا عن ذلك إلا نادرا.»
ثم يشير إلى خطأ منهجي يصل إلى قلب الأمور: «على أن هناك ظاهرة عجيبة حدثت إبان جمع اللغة: وذلك أن اللغويين بدءوا بجمع أكبر عدد من الألفاظ التي سمعوها عن العرب، وتنافسوا في كثرة ما حفظوه منها، ثم أخذوا بعد ذلك يبحثون عن مدلولات هذه الألفاظ، جمعوا الأسماء أولا ثم بحثوا عن مسمياتها، على حين أن الأمر الطبيعي هو أن يعرف الناس الأشياء ثم يبحثوا عن كلمات تدل عليها! ورأى اللغويون أن لديهم عددا كبيرا من الألفاظ للشيء الواحد، ولو عنوا ببحث مصادرها لتبين لهم أن هذا جاء من اختلاف اللغة عند القبائل المختلفة، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأخذوا يخصصون معاني مختلفة للكلمات التي جمعوها، ولست أشك أن هذا التخصيص كان من عمل اللغويين وحدهم، وكان لا بد من مثل هذا التخصيص، فقد جمعوا للبن مثلا نيفا ومائة وستين كلمة، فوضعوا لكل منها معنى خاصا بها، ومن غير المعقول أن يكون كل عربي في البادية يعرف مائة وستين حالة للبن، وأنه وضع لكل حالة كلمة.»
Bog aan la aqoon
يهون د. أمين علي السيد، العميد السابق لكلية دار العلوم وعضو المجمع اللغوي، من مسألة اختلاف اللهجات العربية ومن جرائرها المحتملة: «واختلاف اللهجات أصبح بعد دراستها أمرا مشهورا يعرفه كثير من أهل العلم، ولم يعد (لا يتعدى) هذا الاختلاف مسائل محصورة لا تكاد تذكر بجانب ما أجمع عليه العرب، ولا يجوز لنا ترجيح لهجة على لهجة أخرى، وإنما يجوز لنا أن نرجح الأكثر شيوعا؛ لأن لهجات القبائل العربية على اختلافها صحيحة، وكل واحدة منها يصح أن تكون إماما لنا نقيس عليه.»
21
يبرر الأستاذ حفني ناصف منهج النحاة فيقول: «ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها بل جمعوا الألفاظ التي يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها وجعلوها لغة واحدة مقابل اللغة الأعجمية، ولا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها، فلفظ «المدية» لغة دوس ولفظ «السكين» لغة قريش، فنقل الأئمة اللفظين وأباحوا لكل إنسان أن يتكلم بأيهما شاء ولو لم يوجد في العرب من تكلم بهما معا، ومن هنا جاء الترادف في اللغة والاشتراك اللفظي، ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لتكرر العمل وطال الزمن. ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات فما كان منها كثير الدوران على ألسنة العرب عدوه فصيحا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبا وحشيا، يعد استعماله مخلا بالفصاحة ولو كان معروفا عند المخاطبين، واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودا واستثناءات حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطا بقوانين تحتذى عند القياس، وما شذ عن ذلك جعلوه سماعيا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد.»
22
سجل د. البدراوي زهران اعتراضات على منهج النحاة كما يعرضه حفني ناصف ويبرره، فيقول: «يبرر الأستاذ حفني ناصف خلطهم هذا بأنهم لو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لتكرر العمل وطال الزمن، وأرى أنه لا ضرر من أن يطول الزمن ولكن المهم أن تأتي النتائج صحيحة وتكون الدراسة دقيقة فتتم خدمة لغة القرآن الكريم ولا يحدث مثل هذا الخلط ويكون للسيف خمسون اسما وللحجر سبعون وللناقة مائة؛ وتمثل ظاهرة الترادف أو المشترك مشكلة لغوية ضررها أكثر من نفعها. ثم ما الحكمة في أن يخلط المتكلم بين الخصائص اللغوية لقبائل العرب؟ هل في هذا نفع للغة؟ هل هو الدقة؟»
23
ثم ينتقل إلى كثرة الدوران على الألسنة كمعيار للفصيح فيقول: «إنه حكم غير علمي، فقد كان المفروض أن ما كان بلسان عربي أو بلغة قريش أو ورد في نصوص أدبية عالية أي الذي يمثل اللغة النموذجية هو الفصيح، أما أن يعرف الفصيح بكثرة دورانه على الألسنة فقد يكون لغة العامة، أو لغة قبائل غير قرشية.»
24
ويرى د . زهران أن الأخذ عن العربي دون المولد فيه مجافاة للمنهج العلمي، أما المنهج الأمثل فهو «أن تدرس اللغة دراسة مستويات، فليعد العربي مستوى من مستويات الدراسة، ويعد المولد مستويات الدراسة، فلو اتبع مثل هذا المنهج في الدراسة، ودرست كل لهجة دراسة مستقلة، ودرس كل مستوى من مستويات اللغة دراسة مستقلة؛ لكان ذلك معينا على فهم أساليب العربية وما فيها من أسرار، وكان ذلك أيضا وسيلة للتفريق بين شعراء، وأدباء كل بيئة، بالإضافة إلى هذا، فإن ذلك كان سيحدد طريقة الاستعمال؛ فمستعمل اللغة سوف يرتبط بمستوى معين من مستويات الأداء اللغوية؛ أما والحال هكذا فعلى حد تعبير حفني ناصف فأي لفظ نطقت به فأنت مصيب، وأي استعمال جريت عليه فلست بمخطئ ما دمت لم تخرج عن المنقول.»
25
Bog aan la aqoon
وعن خلط اللهجات يقول د. زهران: «لا شك أن هذا الخلط في المستويات اللغوية وبين اللهجات المختلفة لا يقره العرف اللغوي، فضلا عن مجافاته لروح البحث العلمي، ولك أن تتصور شخصا يحدثك بعامية أهل مصر وبعامية المغرب والشام والعراق في آن واحد دون أن يلتزم خصائص مستقلة للهجة واحدة (من حيث النطق والمفردات والتراكيب ...) هل يمكنك متابعة حديثه وفهمه؟! إنه الخلط الذي لا تعترف به أية جماعة لغوية، ولا يقره أي منهج.»
26
ويرى د. زهران أن اللغويين «كان يجب عليهم بعد الفراغ من دراستهم لتلك المرحلة ألا يدوروا حول أنفسهم فيها، وإنما يدرسوا ويوصوا بمتابعة الدراسات المتعاقبة ويتتبعوا الظواهر المتغيرة في كل أوضاعها على مر العصور وفي مختلف البيئات، فلو أنهم رصدوا حركات التطور لأفادوا اللغة التي حاولوا المحافظة عليها، بالإضافة إلى أنهم كانوا ربما اهتدوا إلى معرفة قوانين التطور وإلى تسخيرها لمصلحة اللغة (غير واقفين في وجه سننها) ... وبذلك يكون علاجهم لها علاجا مبنيا على أسس علمية.»
27 (8) إنصاف وتفهم
أن تفهم شيئا لا يعني أن تقره أو تبرره، وأن تفهم شخصا لا يعني أن تسوغ عمله وتبتلع أخطاءه، بل أن تتمكن من أن تضع نفسك مكانه، وترى الأمور من زاويته، وتدرك العالم من منظوره، أن «تقايضه المواقع في المخيلة»
28
أو كما يقول الإنجليز «تضع قدمك في حذائه»، أن «تواجده»
Empathize
أي تتمثل وجداناته، وتنفذ إلى خبرته، وتجد ما يجد، «وعسير بلوغ هاتيك جدا» باستعارة شطر ابن الرومي.
لكي نفهم النحاة ونتفهم موقفهم لا بد لنا من أن نعي قضيتهم الملحة وسياقهم التاريخي، لقد عاشوا في زمن لا يسعف بتقنيات ولا بمنهج علمي متطور، وواجهوا، كما يقول الشيخ أمين الخولي، «أزمة اجتماعية لغوية هددت العربية؛ فسارعوا إلى جمعها كما أمكن وكما لم يكن يمكن سواه، بجهد مشكور قدره الناقدون قبل تقدمهم بهذا النقد المتبغدد.»
Bog aan la aqoon
29
ويتلخص هذا النقد في بدائية عملهم في الجمع،
30
وفي اقتصارهم على قبائل «موثقة» من العرب الخلص، فكانت الحصيلة لغة ثرية في ألفاظ البداوة، فقيرة في ألفاظ الحضارة؛ مما اضطرهم، أو غيرهم، في العصر العباسي إلى التعريب
31 «بعد أن أعرضوا عنه؛ نزولا على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أخذوه عن القبائل بما عربوه عن الأمم المتمدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم وهي الأخذ عن العرب الخلص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم؛ فهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم.»
32
والآن هل يصمد هذا النقد حين نضع أنفسنا مكان هؤلاء النحاة ونحمل همومهم التي حملوها؟ لقد حاولوا الحفاظ على جوهر العربية ولبابها ليفهموا بها القرآن وينقذوا الأصل المهدد بالضياع، وليعربوا بعد ذلك ألفاظ الحضارة ما شاءوا، ويصبغوها بالصبغة العربية ما داموا قد استخلصوا هذه الصبغة نقية صحيحة. لقد كان همهم أن يتداركوا العربية في ألسنة الخلص قبل أن تغيرها الحضارة بترقيق وسعة. يقول الأستاذ أمين الخولي «إنهم كانوا يجمعونها ليجنبوها هذا الترقيق والتوسيع، ثم لا عليهم بعد ذلك أن يعربوا هم أو غيرهم فيقدموا للحياة حاجاتها، ويضيفوا إلى جانب الفصيح الأصيل، الذي حفظ جوهر العربية وروحها، ما عربوه هم فأكسبوه تلك الروح العربية، وأعطوه الصورة العربية، بعد أن عرفوا هذا كله واستشفوه مما جمعوه من خالص العربية في لسان خلص أهلها، وهم لم يضيعوا بهذا التعريب ولا بجمع الألفاظ الجديدة قاعدتهم الأولى التي رسموها لأنفسهم قط، بل لو أخذوا من أول الأمر عن القبائل التي اختلطت بالعجم لأنهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم؛ لو فعلوا ذلك لأضاعوا جوهر العربية وطابعها الذي يبغون الاحتفاظ به؛ لاعتبارات دينية واجتماعية؛ إذ سيكون ما جمعوه من هذا الخليط ليس هو العربية التي عرفها شعرهم المأثور وفنهم الموحي.»
33
هكذا يكون الفهم الحقيقي لتاريخ الأفكار، ف «التعريب» غير «العجمة»: التعريب يتناول اللفظة الأعجمية ويعلمها العربية! العربية التي أنقذت وحفظت وصينت بفضل الأخذ عن العرب الخلص، «وهل كانوا يعربون قبل أن يعرفوا طابع العربية الصميم الذي يريدون إضفاءه على الكلم الأجنبية؟! لقد كان القوم أيقاظا لما يفعلون، وقد بينوه وأوضحوه بمثل ما قال ابني جني في الخصائص عن ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر،
34
Bog aan la aqoon