فعن المسألة العسكرية، وهي ذات أهمية كبرى، استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد المقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة.
أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى، التي كانت وزارة الخارجية البريطانية قد وضعتها، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي، إذ لا يتصور أن تتوافر الحرية لوزير الخارجية المصرية إذا كان ملزما بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعا لمراقبة مباشرة في إدارة الأمور الخارجية ... ومن جهة أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة.
وأما فيما يتعلق بالمندوبين «القومسيرين» المالي والقضائي، وبتدخلهما في إدارة الشئون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تدخلا قد يصل إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا.
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا بتاتا، فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل. ... وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق الأمل في الوصول إلى اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية.»
هذا هو ملخص الوثيقة التي رددنا بها على مشروع كرزون، وهي إحدى الوثائق المشرفة التي تترجم عن موقفنا في هذه المفاوضات، وتنفي كل ما يقال عنا من أننا كنا نمالئ الإنجليز ...!
وربما يكون الطريف أن أذكر هنا المقارنة بين نوعين من الاستقبال الوطني؛ أحدهما خصصنا به من جانب طلبة البعثات المصرية في لندن أثناء هذه المفاوضات، والثاني استقبال الجالية الأيرلندية للوفد الأيرلندي، الذي كان يتفاوض في نفس الوقت مع لويد جورج على مصير أيرلندا، فقد كان استقبال هؤلاء الطلبة المصريين لنا استقبالا سيئا، بينما كان استقبال الأيرلنديين لديفاليرا وصحبه الذين رأيناه بعد أيام في شارع وايت هول، استقبالا وطنيا مشجعا، فقد اكتظ هذا الشارع والشوارع المجاورة له بجماهير من الجالية الأيرلندية نساء ورجالا، كانوا راكعين على ركبهم في خشوع يتلون الدعوات والصلوات بنغمات عالية لنجاح ديفاليرا، ولإفهام لويد جورج ما يعلقه الأيرلنديون على مطالب أيرلندا، ولم تكن مطالبنا نحن إلا تلك التي اتفق عليها في مصر، ولكن هؤلاء الأيرلنديين كانوا - على خلاف ما في مصر - يعنون بالمبادئ لا بالأشخاص!
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
استقالت وزارة عدلي باشا بعد عودتنا من لندن على أثر فشل المفاوضات مع كرزون، وبقيت البلاد مدة بلا وزارة ، ورأى اللورد اللنبي المندوب السامي وقتئذ أن لا بد من تغيير السياسة البريطانية في مصر، التي تقوم على العنف، واغتصاب حقوق البلاد، ونزع إلى سياسة المسالمة والتفاهم، واتصل بعدلي باشا وثروت باشا وبي هذا الاتجاه الجديد، واجتمعنا نحن الثلاثة وتشاورنا في الأمر، ثم حدثت مقابلات بيننا وبين اللورد اللنبي ووجدنا منه استعدادا طيبا لوضع مشروع يمكن أن يكون أساسا للمفاوضات المقبلة، ولاتفاق مقبل بيننا وبين الإنجليز دون أن يقيد مصر بشيء.
وأخفى سعادته عن الموظفين الإنجليز في مصر ما يدور بيننا وبينه؛ لعلمه أنهم يعارضون في كل سياسة ترمي إلى إضعاف النفوذ البريطاني في مصر؛ لأنها خطر على وظائفهم، ولكنه وجد ضالته في ثلاثة منهم كانوا محل ثقته، واستطاع أن يستعين بمشورتهم وهم: السير موريس شلدن أيموس مستشار الحقانية، والسير رجنلد باترسون مستشار المالية، والجنرال كلايتن مستشار الداخلية.
وبعد ما كفل سعادته مساعدة هؤلاء الثلاثة اتجه إلى البحث عن عقلاء كبار الأوروبيين، الذين يستطيع أن يعتمد عليهم في تأييد سياسته؛ لأنه كان موقنا أن كل عمل يعمله في مصر لا يكلل بالنجاح الذي يبغيه إلا إذا رضي عنه الأوروبيون من أصحاب المصالح، فبدأ جنابه بالبارون «فرمن فان دي بوش»، الذي كان نائبا عموميا بالمحاكم المختلطة يومئذ، فدعاه إلى زيارته، وأفضى إليه برغبته في السياسة الجديدة التي يود انتهاجها في مصر، فوافقه البارون فرمن، وارتاح اللورد إلى هذه الموافقة، وكان البارون فرمن يتمتع بثقة «السلطان فؤاد» وصداقته.
Bog aan la aqoon