هذا وإن كل سني إقامتنا بإسطنبول، كانت سني عبرة واستفادة، وكنا نجتمع بمن بها من الأشراف أهل الحجاز، ولنا أصحاب من أعيان الترك وأشرافهم. وكانت لنا بإسطنبول رحلتان صيفية وشتوية، ولا يمل الإنسان من ذكر المواسم، وخصوصا مواسم الصيد المائي والبري، يعلم ذلك من عاش هناك.
أما السلطان فهو محتجب إلا عن خاصته، لا يخرج من قصره في غير أيام الجمع والأعياد، مهاب محترم، عليه تعلق الآمال، وقد جعل الله تصريف الأمور على يده. وأما الباب العالي والوزارة العثمانية، فبيدها ممارسة أمور الدولة بالشكل العادي، وما ارتفع عن ذلك فالبت فيه للسلطان، حيث لا يكون أي تبديل أو عزل في ولاية أو متصرفية أو مشيرية أو قيادة فرقة أو قيادة لواء إلا بعد عرض ذلك مع تبيين الأسباب والموجبات. وإنه ليمكن القول بأن السلطان عبد الحميد، كان آخر سلاطين المسلمين علوا ورفعة، وأشبه ما حصل بعد خلعه للمسلمين بما حصل للمسلمين، عندما وثب أهل الكوفة وأهل مصر على أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ فان كان عثمان هو الباب الذي كسر بين الفتنة والناس، فإن عبد الحميد كان الباب الثاني الذي كسر في العصر الأخير بين الفتنة والناس أيضا. ولله تصريف الأمور وله الدوام والعزة.
كان في عهدنا بالأستانة من عظماء العرب، الشريف عبد الإله بن محمد، والشريف الحسين بن علي بن محمد صاحب النهضة، والشريف حيدر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، وعمه الشريف أحمد عدنان بن عبد المطلب بن غالب، والشريف جعفر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، والسيد فضل أمير ظفار وأبناؤه، والسيد محمد أبو الهدى الصيادي نقيب حلب، والسيد أحمد أسعد المدني وكيل الفراشة السلطانية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد ظافر الطرابلسي المغربي النقشبندي مرشد الحضرة السلطانية وبنوه، وكان السلطان يقبل عليهم جميعا ويرعى جانبهم، وغير هؤلاء آخرون، لهم مصالح يحضرون من أجلها ثم يعودون إلى بلادهم. إلا أنه لا يمكن لأحد ممن ذكرت أسماءهم، الرجوع إلى أوطانهم أو إلى بلد آخر البتة، فكانت إسطنبول السجن المحترم، أو منفى العزازة والإكرام لهؤلاء الأشخاص الكرام.
ومن طريف ما نذكر، فرار أهل الخلاف على جلالة السلطان والمرجفين بإدارته. فكان الفرار إلى أوربا وسيلة لجر المغانم، فإذا فر أحد، كمراد بك المؤرخ المعروف، إلى باريس، أو كأحمد رضا بك الإنكليزي رئيس مجلس المبعوثان أخيرا إليها، أو نزوح الداماد محمود باشا، كانت إسطنبول تقوم وتقعد في همس وتخافت: هل سمعت فر فلان ... هل علمت أن جيران فلان الذي فر أخذوا للتحقيق ... وكان ذلك السلطان العظيم الجرأة يقلق جدا لفرار الشخصيات، لا لهيبتهم في ذواتهم، ولكن لتساؤل الناس ما السبب ما السبب. وفي الحقيقة أنه كان يعمل بحسن نية وإخلاص، فهو إن كان من المخطئين فلم يكن خطؤه إلا في اجتهاده.
من إسطنبول إلى الحجاز
لنلتفت إلى السفر من إسطنبول إلى الحجاز، حيث تجهز الوالد المرحوم بعد أن وصل إلى مقام الإمارة بأسبوعين، على الباخرة المسماة (طنطا) وهي إحدى بواخر الشركة الخديوية حين ذاك؛ وقد قابل السلطان عبد الحميد يوم سفره مودعا، واختلى به أكثر من ساعة ونصف، وكان حزب الاتحاد والترقي يحاول الاستحواذ على الحكم، بعد أن ظفر بما أراد من انقلاب دستوري بتولية المناصب كل من ينتمي إلى هذا الحزب؛ وبالطبع فإن فريقا من الناس الذين يتمسكون بما ألفوه لم يكونوا راضين بما هو حاصل، وكانوا يقولون: هل المستقبل بأيدي من لا خبرة لهم في الأمور أضمن من الماضين الذين في أيديهم الألف السابق؟
وقال لي والدي، إن السلطان عبد الحميد قال له: أسأل الله أن يجازي من حال بيني وبين الاستفادة من مواهبك الهاشمية، وإنني لست بالأمين على الدولة والملك من هذه الفئة المتغلبة. قال فأجبته: إن لذاتكم الملوكية في البلاد العربية الفئة التي إذا تحيزتم إليها كان لكم ما تريدون من حفظ الدولة والملك، ومتى شعرتم جلالتكم بذلك فأول بلد من بلاد العرب تقوم بالواجب المفروض هو الحجاز، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم «المدينة خير لهم لو كانوا يعملون»، ولو فعلتم جلالتكم ذلك وجلبتم آل بيتكم معكم، لجبيت إليكم الأموال ولأخضعت لكم رقاب العصاة، لأنكم تكونون حين ذاك فوق متناول أيديهم. قال فاغرورقت عيناه وأجاب: أشكرك أشكرك، بارك الله فيك، ولكن الوقت لم يحن ... ثم وضع وسام الافتخار المرصع بيده على صدره وودعه، وكان حضور الأمير إلى الباخرة تأخر كثيرا، وعند وصوله حضر إلى الباخرة الصدر الأعظم كامل باشا، مودعا ومقدما إليه مذكرة يقول فيها:
إن الخطة المباركة الحجازية مربوطة رأسا بمقام الخلافة العظمى، وإنه لا يسري إليها ما يخالف الحقوق المقدسة، بمناسبة الدستور الجديد، القائمة بين الإمارة الشريفة والسدة السنية السلطانية، فقوموا بواجباتكم السامية على أساس التعامل القديم، وفقكم الله للخير. وإن اعتماد الحضرة الملوكية والباب العالي على ذاتكم الهاشمية، مما لا يحتاج إلى تأكيد. وهذا أول نضال بين السلطان ومتغلبة الاتحاد والترقي، وأول علم أعطي لأمير شريف ليكون السبب في اشتغال هؤلاء بمدعيات قديمة تركز مقام الخلافة والسلطنة وتدعمها، فافهم.
ولما خرج الصدر الأعظم، أقلعت الباخرة ليلا في شهر تشرين الثاني، شهر أوائل العواصف الشتوية، وكانت ليلة لا بأس بها، فالبحر لم يكن بالهادئ الساجي ولا بالهائج المائج؛ وكان في المعية الفريق عمر شاكر باشا المرافق السلطاني يحمل الفرمان، وكنت أنا في المعية، والشريف دخيل الله العواجي والشريف محمد الشنبري ومدير الحرم الشريف المكي حافظ أمين أفندي ومعلمنا صفوت باشا العوا ومحمد شاكر أفندي إمام الإمارة ورجال الحاشية. فاجتازت السفينة الدردنيل بعد ظهر الغد، وبعد أن خرجت إلى بحر إيجا، هاج البحر هياجا لعارض هب كثير الرعد والبرق والمطر، وهي تجري في موج كالجبال، ولم يتمكن الكثير من المعية من الصلاة إلا وهم جلوس. وكانت الحالة على ما وصفت إلى أن وصلت السفينة مضايق أزمير حيث تضاءل الموج، وأما العاصف فاستمر كما هو، فرست السفينة عند الرصيف، وزار الوالي الأمير والقائد أيضا، ثم سافرت السفينة في اليوم التالي في بحر هادئ وجو حسن، استمر إلى أن أقبلت السفينة على طرابلس الشام، فهاجت الريح وعصف البحر؛ وكانت بقية ليل موحش انتهى بالوصول مع السلامة إلى طرابلس، حيث طرقت سمعي النداءات العربية الحبيبة، ورأيت النخيل وشاهدت المباني العربية، فأحسست بشعور غريب يقول: هؤلاء قومك ومعشرك ... وأحسست بشعور بين البكاء والضحك. ثم سافرت الباخرة بعد سبع ساعات إلى بيروت، وقد زار رئيس البلدية والمتصرف سيدنا المرحوم في الباخرة. أما بيروت فوصلنا إليها عند آخر الليل، وأقامت بها السفينة إلى ما بعد الظهر، وكانت بيروت ليست كما هي الآن، ظلت وعليها مسحتها الشرقية في أكثر محالها؛ فخرجت باخرتنا منها في الساعة الثالثة بعد الظهر متوجهة إلى بور سعيد، بعد أن أبرق المرحوم برقيتين إلى المدينة المنورة: واحدة إلى الشيخ يوسف خشيرم «وصلنا بيروت وجهنا إليك وكالة أشغالنا الخاصة» والأخرى إلى الشريف شحاد «وصلنا بيروت متوجهين إلى جدة وجهنا إليك إمارة المدينة توجه بأشراف طرفكم ومشايخ حرب وجهينة إلى مكة المكرمة».
Bog aan la aqoon