Xusuusaha Dhallinyarada
مذكرات الشباب
Noocyada
من يوم سافر ب. وأنا أحس بالوحدة تفيض عني، أدخل غرفتي وأجلس على الكنبة، ثم أجيل طرفي في المكان فأرى من آثار صديقي العزيز ما جعل فراقه أشد مضاضة وأقسى على نفسي، كم من مرة كنا نجلس معا في هذه الغرفة ونتحادث حتى بعد منتصف الليل من غير أن نحس بالوقت يمر سريعا، وكم من مرة كنت أجلس كما أنا الآن وحيدا ثم إذا هو دق على الباب ودخل باسم الثغر طلق المحيا، والآن لا أمل في مثل تلك اللحظة الحلوة التي كانت تمر ولا أشعر بها.
أقضي معظم وقتي في القراءة، وقد قرأت في هذه المدة شيئا غير قليل ، ولكني كثيرا ما أذهل عما بيدي وأتوه عن نفسي ويسرح خاطري بعيدا في تيهاء لا تميز فيها شيئا، وأضطر إذ ذاك أن أعيد قراءة صحفية وأحيانا صحيفتين ليتصل المعنى، ثم لا أكاد آتي على أخرهما حتى يراجعني هذا الذهول، وتستمر هذه الحال أحيانا ساعة متواصلة، وأحس في أحيان أخرى بحدة في خاطري وتنبه في أعصابي فأقرأ وأقرأ وأقرأ وكأني ألتهم ما يقع تحت نظري، فلا أشعر إلا وقد جئت على مبلغ عظيم في وقت غير طويل، فإذا ما مللت الكتاب وملت أستريح وذكرى الماضي راجعني الحزن وأخذ بخناقي الهم.
ابتدأت اليوم أقرأ في اعترافات جان جاك روسو وجئت إلى الآن على عشرين صحيفة منها، وهو يحكي حياته يوما بيوم ويقص تاريخه وتاريخ عائلته، يشعر الإنسان أمام جمال هذا الأسلوب وترتيبه وتوازيه بهزة سرور غريبة، فكأن نفسه تسري مع موجات موسيقى الكاتب ويحس من لحظة لأخرى بحاجة تدفعه لأن يقرأ بصوت عال حتى تتلذذ أذنه بالنغمات المرتلة التي تسمع، وتراه حينذاك يندفع في قراءته أو هو يتوانى ويتباطأ مجبورا على ذلك بظروف الحادثة التي يشاهد تحت نظره، وبترتيب الأسلوب ومواضع الكلمات، فكأن الكاتب ممسك بزمامك يصرفك على هواه، وأنت مسرور أن تجد نفسك مطيعا سائرا من غير انقطاع.
لكن الشيء الذي يستوقفك دائما عظيم فخر الكاتب بنفسه، فمن أول سطور الكتاب تراه يقول ما معناه: هذا اعترافي أكتبه مستعدا لأن أقدمه أمام الخلق يوم الحساب، وما أظن مخلوقا يجرؤ أن يجيء يوما فيقول: «إني عملت ما عمل هذا الرجل»، وسوى ذلك من هذا النوع كثير، والواقع أن جان جاك الذي ولد فقيرا أو قضى شبابه في شبه التشرد لا يمكنه أن يرى نفسه وقد وصل بمجهوداته إلى الدرجة التي وصل إليها من غير أن يأخذه الإحساس بتفوقه على الناس وبأنه أحسن منهم.
6 نوفمبر
انتقلت بالأمس إلى هذه اللوكاندة، وبعد أن انتهيت من ترتيب المكان استمررت أقرأ روسو، ولا أستطيع حقيقة أن أتصور كيف تنتج شبيبته مثل هذا الكاتب والمفكر الذي قلب كثيرا من العوائد السارية في أيامه، بل إني أتساءل كيف لم تكن نتيجتها مجرما سفاكا أو لصا أو متشردا من أي نوع كان، فتى مهمل ملقى حبله على غاربه تتقاذفه الصدفة وتتلاعب به الأيام، لا يقر له قرار ولا يعرف كيف يثبت على حال، حيث حل لم يقم وكلما وجد في مكان تركه بعد مسألة أو حادثة، ويكتب هو كل ذلك بنفسه يسجله على نفس، لا بدع بعد ذلك أن يكون على حق القائلون بجنونه، ولا بدع أن يكون العظماء من بين المجانين.
وظاهر ولع الكاتب بالطبيعة إلى حد الهيام، ولم يكف جان جاك أن ينقل حوادث حياته في اعترافاته بل هو يستمد من ذكر الماضي خيالات يصف بها الطبيعة التي كانت محيطة به مدة شبيبته وقسما كبيرا من أيام رجولته.
ويصل الكاتب في بعض الأماكن إلى منتهى حدود الإبداع في الوصف، وهو دائما الشاعر الذي يهيم بكل ما يصوره له خياله من الزمان والمكان، وكأن الماضي وما في الطبع الإنساني من الحنين إليه يثير حولنا رياضا وجنات، ويجعلنا نتخيل ألوانه كأزهى ما تكون، وروائحه كأعطر ما شممنا، ويصل إلى آذاننا تغريد عصافيره وأطياره كأنها أبدع الموسيقى وأتقنها، فإذا كان ذلك شأن الماضي إذا لامس خيال أفراد الناس، فماذا يكون من شأنه إذا لامس خيالا ملتهبا كخيال جان جاك.
12 نوفمبر
البرد شديد والضباب يملأ الجو والشارع مهجور أو يكاد، وقد أوقدت النار في مدفئتي وبقيت إلى جانبها أقرأ في اعترافات روسو إلى ما قبيل الظهر، ثم مر بي ج.ا. فذهبنا وتناولنا طعام الغذاء معا، ثم اتفقنا على أن نذهب فنسمع أسطوانات عربية على الفونوغراف، وركبنا (الأومنوبيس) من ميدان سان ميشيل، وبعد أن نزلنا منه وسرنا مدة على أقدامنا دخلنا دكان (فونوتيك) وسمعنا أسطوانات من سلامة حجازي وعبد الحي وغيرها، وكم كان لهذه النغمات المصرية من أثر على قلوبنا المصرية في هذا الوسط الباريسي، كم كان لها وهي تخرج من أعماق الدكان وسط أنبوبات لتخص السامع دون غيره بلذتها، ولا يتمتع بها ولا أقرب جيرانه إليه ما يجعل الواحد وهو ممسك بيديه سماعتي الفونوغراف (وهو من الجنس القديم الحريص على ما فيه من الأصوات فلا يسمعه إلا من وضع السماعة على أذنه) ما يجعله يخيل نفسه بعيدا بعيدا عن ضجة المدينة الهائلة، في هذه اللحظات ينسى الإنسان نفسه والمحيطات به ويعيش في مصر بمقدار ما تسمح له آذانه.
Bog aan la aqoon