171

Xusuusaha Dhallinyarada

مذكرات الشباب

Noocyada

ونبع الخروبة واحد من ألوف النبوع الموجودة في لبنان، فهذه البلاد لا تعرف ماء النهر، وإنما تتسرب مياه المطر فيها خلال الجبال وتظل تنساب في ثناياها ثم تنبع صافية باردة يشرب منها الناس والدواب وتستقي منها الأوتموبيلات وتدار بها الطواحين.

ومرت بنا السيارة في عين سعادة وبيت مري قبل أن تصل بنا إلى برامانا، وتلك قرى لبنان مثلها مثل سائر القرى، بنيت بيوتها من حجر الجبل، وغطيت سطوحها بالقرميد يسيل من فوقه المطر أثناء فصل الشتاء، وإنك لتدهش لما بين هذه القرى وقرانا في مصر من فرق، حجر بدل اللبن، وقرميد بدل الأحطاب، وتحيط بقرية لبنان سفوح الجبل بأشجارها وينابيعها، وتحيط بقرية مصر المزارع إلا أن تفصل بينهما حاجة الزرع من سماد وبقايا مياه الترع من مستنقعات، وترى في أكثر قرى لبنان من مظاهر المدنية، نور الكهرباء يضيئها في المساء، أما قرى مصر فتحترم ظلمة الليل أشد احترام.

ومعظم الفرق بين القريتين يرجع إلى أن لبنان جبل فالأحجار في متناول أهله، ولبنان مصيف فكل قرية من قراه تسعى لتتجمل كي تجذب إليها أنظار النازحين من مختلف جهات الشرق الأدنى يبتغون الراحة ويبتغون معها ما اعتادوا من ترف الحياة ونعيمها؛ لذلك كانت الكهرباء وكانت الفنادق في القرى ... ولذلك كانت ظاهر المنازل جذابا، وكان في أهل لبنان حفاوة وإسراع إلى النازل بين أظهرهم، فأما مصر فواد يجري النيل خلاله فيدر على أهله من أخلاف الرزق خيرا وبركة، من طينته المباركة يتخذ أهل القرى منازلهم، وفي تربته المباركة ينفقون مجهودهم ، فقريتهم لهم لا لغيرهم، ورزقهم من سعيهم لا من متاع غيرهم؛ ولذلك لم يعنوا بظاهر المنازل ولم يكن الفلاح المصري حفيا وإن كان شهما كريما.

لبنان مصيف الشرق الأدنى، حبته الطبيعة مناخا معتدلا ونسيما رقيقا ومنظرا بديعا، فاجتمع لديه البحر والجبل وما في البحر والجبل من جمال، يهب عليك الهواء نديا غير رطب ورقيقا غير قارس، وتسرح طرفك حيث شئت فيأخذ به جمال الشجر الباسق تارة وجلال الجبل الجدب طورا، فإذا كان المشرق أو المغرب أخذت الشمس زينتها لتحية الاستقبال أو لتحية الوداع، وهي تودع لبنان لتغيب في لجة البحر تاركة وراءها السحب في سوار من نار وفي قلائد من عقيق وذهب، ولن تراها تضن يوما بمغيب بديع، فإذا كانت أيام تكامل القمر اشتملت الوديان والسفوح والجبال لجة النور الرقيق الشفاف وامتدت هذه اللجة فانطرحت على سطح البحر وكست موجه حياة ونورا.

ومن خلال الأشجار وفي قمم الجبال ينبع الماء تارة وينحدر أخرى، وهو في نبعه وفي انحداره نمير رقيق تنبع الحياة حوله ويزيدها بهاء وجمالا، وهو في رقته وفي تبعثره يشعرك حقا أن لا حياة إلا حيث الماء، وأن بلدا يغيض ماؤه يقضى عليه لا محالة بالجدب وبالموت.

لبنان مصيف الشرق الأدنى ... وسويسرا مصيف أوربا ... ولبنان يمتاز على سويسرا بالبحر تغرب فيه شمسه، وتمتاز سويسرا على لبنان بالبحيرات تحتفظ بمياه الجبال لتتغذى منها أكبر أنهار أوربا ... وبين لبنان وسويسرا فرق آخر هو الفرق بين الشرق والغرب، فحيث سرت في سويسرا رأيت الإنسان سعيدا للطبيعة ورأيت الطبيعة خاضعة لحكم الإنسان، وحيث سرت في لبنان رأيت الإنسان عبدا للطبيعة خاضعا لحكمها، في سويسرا ترتفع إلى قمة الجبل بقوة جذب البخار أو الكهرباء لعربات (الفنيكولير)، وفي لبنان تدور حول السفوح وتسير حيث تأمرك تعاريج الجبل، ثم لا تبلغ بعد ذلك من عليا القمم إلا يسيرا، في سويسرا تتخطى من سفح إلى سفح وتخترق الجبال أميالا في جوف النفق، وفي لبنان تدور مع السفح لتهبط إلى الوادي وتعتلي الجبل لتدور حول سفحه كي تهبط إلى واد جديد، في سويسرا ما شئت من شجر وزهر، وفي لبنان أشجار قضت الطبيعة من الأبد أن تكون أشجار لبنان ... ترى أي شيء أحب لنفس أهل الشرق: الرضا بالقضاء أم السعي ليمسكوا بيدهم صرف القضاء! هم إلى اليوم بالقضاء راضون، فهل يكون القضاء في غد بهم راضيا؟

قد يحتاج إخضاع الطبيعة المترامية الأطراف إلى جهد وزمن، وقد يكون الشرقيون في كفاء بما حبت الطبيعة به لبنان من بهاء وجمال، لكن المصطاف يحتاج إلى جانب جمال الطبيعة عيشا رضيا، وذلك أول ما يدور حوله بحثه حين يصل إلى المصيف فيبحث في فنادقه وفي منازله عما يكفي حاجته ويضمن طمأنينته، وهو واجد في لبنان شيئا غير قليل من هذا، وهو بعد في حاجة منه إلى شيء غير قليل.

22 أغسطس سنة 1924

برمانا - بكفيا - اهدن:

في يوم الاثنين الماضي - 18 أغسطس - مر بي في برمانا عبد المنعم بك رسلان وعبد العزيز بك رضوان وشمس الدين بك عبد الغفار ومعهم الخواجه أمين عقل ولم أكن أعرفه من قبل، وقد علمت منهم أن إسماعيل باشا أباظة مصيف ببيت مري وأنهم ذاهبون لزيارته، فذهبت معهم وقابلناه ومن معه بلوكاندة العجيل، والرجل اليوم في العقد الثامن من عمره قد بلغ به الضعف كثيرا، وتحدث زائروه في الانتقال من بكفيا حيث يقيمون، فدعاهم إلى بيت مري حيث المنظر جميل والهواء رقيق والاجتماع يحبب في الإقامة، وعرض عليهم صاحب الفندق غرف الفندق، لكنهم رأوا تأجيل البت في الأمر لأنهم كانوا قد اعتزموا السفر إلى اهدن، وعرض علي شمس الدين أن أكون في جماعتهم فترددت ثم ذكرت له أن صديقنا الدكتور سامي كمال كان معتزما هذه السفرة، وإنني أسر إذا كان معنا، وكان الدكتور سامي مقيما في ظهور الشوير، فتم الاتفاق على أن نكون جميعا معا، وفي يوم الأربعاء وصلني ببرمانا تلغراف من عبد المنعم بك رسلان يخبرني فيه بأن أوتموبيلا سيكون عندي في الساعة الخامسة من صباح الخميس، واستيقظت قبيل هذه الساعة، ووصل الأوتوموبيل وذهبت قاصدا بكفيا في الساعة الخامسة والثلث، وكانت الشمس قد انجلى عنها غشاء المشرق المتورد وسطع نورها، وكان الهواء رقيقا صفرا، فجعلت السيارة تتسلل فوق طرق الجبل مختفية مرة وراء أكمة ثم مرتفعة فوق أكمة أخرى، وشجر الصنوبر يتكاثف في بعض الأماكن فيقع النظر منه على غابة تبدو جزوعها ملتفة قوية باسقة إلى السماء حتى تظلها رؤوس الصنوبر تتقارب فتبدو للعين كأنها قمة واحدة، ثم تصعد السيارة حتى إذا غابة الصنوبر التي كانت رفيعة أمامك قد صارت إلى جانبك، وإذا بك قد درت حولها في طرق الجبل المتعرجة المثنية الصاعدة وأختها فوق الأخرى تراها كأنها رقاب الجمال في لونها واستدارتها، أو كأنها سرب من الأفاعي انسابت هائمة من عند شاطئ البحر، فجعلت تتسلق الجبال وكأنها يطاردها مطارد، ولا تلبث إلا دقائق ثم إذا غابة الصنوبر قد بدت خاضعة رؤوسها مختفية جزوعها، وهذه الرؤوس الخضراء المتموجة تبدو تحت نور الشمس مطمئنة، وتبعث إلى الصدور شذا رقيقا لا تكاد تحسه، ولكنك تشعر للقياه بسرور، فتفتح له كل صدرك وتستنشقه ملء رئتيك، وكذلك ظللت أتسلق الجبل تطير بي السيارة فوق هذه الرقاب الملتفة على كتف الجبل، والتي تذرك دائما بين الجبل قائما من ناحية يحدثك بخضرته ونضارته وبسموه ورفعته حديث الوحدة الساكنة إلى نفسها، وبين الوادي هابطا في بطن مطمئن تنحدر إليه سفوح خضراء نضرة كلها شجر الصنوبر وكروم العنب والتين، وبلغت بكفيا في الساعة السادسة وأنا موقن أن أصحابي في انتظاري وأنا سنقوم توا إلى اهدن، لكن أصحابي كانوا لا يزالون نياما أو يكادون.

Bog aan la aqoon