وأقول هنا على أشد الكره مني إن أقوالا قيلت تلميحا أو متناثرة عن المستر سيمور خاصة، وهي أن له نصيبا في اختراع هذا الكتاب، أو في شيء منه، لم يعرض بأمانة في الفقرة السابقة، ولكني أقتصر هنا على تدوين الوقائع التالية:
وهي أن المستر سيمور لم يبتكر يوما، ولم يقترح إطلاقا حادثة أو عبارة أو كلمة مما حواه هذا الكتاب، وأنه مات حين لم تكن قد صدرت منه غير أربع وعشرين صفحة، ولم تكتب على اليقين ثمان وأربعون، وأنني أعتقد أنني لم أر خط المستر سيمور في حياتي، وأنني لم ألتق به غير مرة واحدة في العمر، وكان لقائي له في الليلة السابقة لليوم الذي أدركه الموت في غده، فلم يعرض بلا ريب رأيا ما خلال لقائنا، ولا أبدى اقتراحا، وكان اجتماعنا في محضر شخصين لا يزالان في قيد الحياة، ويعرفان هذه الوقائع كلها حق المعرفة، ولا يزال تحت يدي إقرار مكتوب منهما بها ... وأخيرا أن المستر إدورد تشبمن أحد الشريكين في مؤسسة «تشمبن وهول»، وهو لا يزال حيا يرزق، قد دون كتابه للغرض ذاته، وهو تسجيل الحقيقة، كل ما يعرفه شخصيا عن أصل الكتاب وسيرته، وعن بشاعة هذه الدعوى التي لا أساس لها، وأورد من التفاصيل ما يدل في ذاته ووضوحه على استحالة احتوائها شيئا من الحق، ولست أريد - عملا بما أخذت نفسي به - أن أنقل هنا رواية المستر إدورد تشبمن لما قابل به شريكه الراحل في إحدى المناسبات، هذا الادعاء الذي أسلفت ذكره.
أما «بوز»
BOZ ، ذلك التوقيع الذي كنت أوقع به ما أكتب في «المورننج كرونكل»، و«المجلة الشهرية القديمة»، والذي كان يظهر على غلاف العدد الشهري من هذا الكتاب، وبقي دهرا طويلا بعد ذلك، فقد كان كنية أطلقت على طفل مدلل، كان أخا لي أصغر مني سنا، وكنت أدعوه «موزيس»؛ تكريما ل «قسيس وكفيلد»، فاستحالت هذه الكلمة عند النطق بها مزاحا من الأنف إلى «بوزس»، ثم أصبحت بعد اختصارها «بوز»، وكانت هذه اللفظة مألوفة في أفق بيتنا قبل أن أصبح «مؤلفا» بوقت طويل؛ فاتخذتها لنفسي توقيعا.
وقد لوحظ عن المستر بكوك أن شيئا من التغير طرأ قطعا على شخصيته؛ في سياق هذه الصفحات واطرادها، فقد أصبح أكثر طيبة، وأوفر عقلا، ولست أعتقد أن هذا التغير سيبدو مفتعلا أو متعملا لقرائي إذا هم تذكروا أن خواص رجل أوتي شيئا من غرابة الأفكار، ونواحي شذوذه، هي في الحياة أول ما ينطبع فينا عامة منه، وأننا لا نبدأ عادة ننظر إلى ما تحت الظواهر البادية لأعيننا منه، وندرك النواحي المثلى التي ينطوي عليها، إلا بعد أن نزداد معرفة به، ومتابعة لدقائق شخصيته.
ولكيلا يغيب عن فطنة فريق من سليمي النية الفارق بين الدين في جوهره، والترائي به، وبين التقوى وادعائها، وبين الاحترام المقترن بالخشوع للحقائق الجليلة التي جاءت في الكتاب المقدس، وبين إقحام حرفيته لا روحه إقحاما منطويا على الجرأة، ومثيرا للاشمئزاز في أحقر شئون الحياة وأبسط مسائلها وأدعاها إلى الخلاف، وما يؤدي إليه من البلبلة المتناهية لعقول السذج والجاهلين ... لكيلا تغيب عن فطنة بعض حسني القصد، وكان ذلك جائزا عند أمثالهم قبل أن يصدر من عهد قريب كتاب
OLD MORTALITY «الوفيات القديمة» هذه الفروق التي ذكرتها، أقول لهم: إنني في هذا الكتاب إنما سخرت من الرياء في الدين لا من الدين ذاته، وتهكمت بادعاء التقوى لا بالتقوى عينها، وهجوت الذين يعبدون الله على حرف، دون الذين يستمسكون بروح الكتاب المنزل ومعانيه، كما أضيف إلى ذلك أن كل هذا الذي تعرضت له بالسخرية والتهكم والهجاء، قد دلت التجارب والمشاهدات كلها على أنه لا يتفق مع الدين والتقوى وسلامة التناول لتعاليم الدين وأصوله، وأنه من المستحيل أن يتحدا، وأنه من أشد الأكاذيب أذى في المجتمع، وأبلغها على الناس ضررا، سواء اتخذت مقرها اليوم في قاعة إكستر، أو كنيسة «أينزر»، أو فيهما معا، ولعل هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كلمة تقال فيه، أو ملاحظة تعرض بسبيله، ولكن الواقع أنه ليس ثمة بد في كل حين من التنديد بهذا العبث السمج بالمقدسات، الذي نرى الخوض فيه مترددا على الشفاه، ولا يتأثر به القلب، أو بهذا الخلط بين المسيحية وبين أية طبقة من أولئك الذين وصفهم «سويفت» بقوله: إن لديهم من الدين ما يكفي لأن يتباغضوا، ولا يكفي لأن يجعلهم متحابين.
وقد وجدت من دواعي العجب والاغتباط، حين عدت أتصفح هذا الكتاب في طبعة جديدة، طائفة كبيرة الشأن من وجوه الإصلاح الاجتماعي قد تمت بصورة لا تكاد تحس، منذ كتبت هذه الفصول في الأصل، وإن كان التسامح مع المحامين، ومدى الوسائل والأساليب البارعة في تضليل هيئة المحلفين، لا يزالان بحاجة ماسة إلى التعديل، كما لا يزال إصلاح نظام الانتخابات البرلمانية - بل لعل البرلمانات ذاتها أيضا - في حدود الممكنات، ولكن الإصلاح الذي تناول القضاء قد قلم أظفار أمثال «دودين وفج» بين طائفة المحامين، وانتشرت بين وكلائهم وكتبتهم روح الاحترام الذاتي، والأناة والتعليم، والتعاون على هذه الغايات الكريمة والأهداف الحسنة، وتم التقريب بين البقاع النائية والأماكن القاصية ؛ لراحة الجمهور وفائدته، كما تغيرت القوانين المتعلقة بالحبس من أجل الديون، وهدم سجن «فليت»؛ مما يرجى أن يقضي مع مر الزمن على جملة من الأحقاد الصغيرة، وضروب العمى، وصنوف المساوئ التي ظل الجمهور أبدا ضحيتها دون أحد سواه.
ومن يدري لعلنا - قبل أن تصل هذه السلسلة التي ننشرها تباعا إلى ختامها - واجدون أنه قد أصبح في الحواضر والريف قضاة مدربون على أن يصافحوا كل يوم يد البداهة، ويهزون كف العدل، وأن «قوانين الفقراء» نفسها ستأخذ بالرحمة معاشر الضعفاء والشيوخ البائسين، وأن يؤمن الناس بأن المدارس، ومعاهد العلم المؤسسة على مبادئ المسيحية السمحة، هي أجمل ما يزين هذه البلاد المتحضرة طولا وعرضا، وأن يحكم رتاج السجون من الخارج بذلك الإحكام والتدقيق اللذين يحكم بهما رتاجها من الداخل، وأن يصبح تعميم وسائل النظافة والصحة حقا لأفقر أهل الفاقة - كما هي اليوم أمر لا غناء عنه لسلامة أهل الغنى، وأمن الدولة - وأن هذه الهيئات الصغيرة والإدارات القليلة التي لا تزال أقل من قطرات في بحر البشرية الخضم الذي يهدر ويزأر من حولها، لا تدع الحمى وذات الرئة طليقتين تصيبان خلق الله كما تشاءان، أو تاركين رباباتها ومعازفها الصغيرة ترسل أنغامها أبدا لتستقبل رقصة الموت ...
عن المؤلف
Bog aan la aqoon