وفي يوم 12 ديسمبر وقع رؤساء الأحزاب والمستقلون على كتاب الجبهة إلى الملك ورفع إليه وتسلمه علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ، وفي ذات اليوم صدر المرسوم الملكي بعودة دستور سنة 1923، وجرت الانتخابات العامة لمجلسي النواب والشيوخ في مايو سنة 1936. (3) إقصائي عن الحياة البرلمانية مرة أخرى
أشرت في مقدمة هذه النبذة إلى أني خرجت من مسعاي في ائتلاف سنة 1935 كما خرجت من ائتلاف سنة 1925، بصفقة المغبون، وهاك تفصيل ما حدث لي سنة 1935:
لما جاء توزيع المقاعد البرلمانية، وكانت كثيرة لأنها شملت مجلس النواب ومجلس الشيوخ كله من منتخبين ومعينين، كنت العضو الوحيد في الجبهة الوطنية الذي لم ينل مقعدا لا في مجلس النواب ولا في مجلس الشيوخ! ولم يتركوا لي دائرة أو مقعدا في كليهما، في حين أن الوفد جامل الأحزاب الأخرى المؤيدة للمفاوضة والمعاهدة في التعيينات لمجلس الشيوخ فخص كل حزب منها بأربعة مقاعد من مقاعد الشيوخ المعينين (وكانت كلها شاغرة)، أما الحزب الوطني فإنه لم يتفضل عليه إلا بمقعد واحد ناله طبعا رئيس الحزب، وبذلك أقصيت من الميدان حين جاء توزيع المقاعد، تماما مثل ما حدث لي سنة 1926، والتاريخ يعيد نفسه!
وكان غرض الوفد من السخاء على الأحزاب الأخرى (على خلاف عادته) بهذه الأربعة المقاعد لكل منها، أن يضمن موافقتها له على إبرام المعاهدة التي كانت المفاوضات جارية بشأنها وعدم معارضتها في البرلمان؛ لأن الحكومة البريطانية كانت تشترط لعقد المعاهدة أن تتفق عليها الأحزاب كلها (ماعدا الحزب الوطني طبعا)، ولعل هذا هو ما جعل الوفد يقصيني عن البرلمان سنة 1936 كما أقصاني عنه سنة 1926.
هذا، ولمناسبة خروجي بصفقة المغبون من مسعاي في ائتلاف سنة 1925 وائتلاف سنة 1935، يحق لي أن أقول إني مغبون في قومي، هذا على الأقل شعوري سنة 1936.
حرمت طيلة حياتي من معاونة الغير لي؛ لم أجد معاونة لي في أعمالي ومشروعاتي ومنهجي في الحياة، لا من المجتمع، ولا من الحكومات، ولا من الهيئات، ولا من الأفراد (إلا قليلا منهم). كل كفاحي أو معظمه كان يسير بلا سند إلا من معونة الله، لم أنل من المجتمع ولا من الحكومات أي علامة تقدير لأعمالي، لا أقول هذا طعنا في المجتمع، بل تقريرا للواقع، وتحدثا بنعمة الله، نعمة الصبر. ويلزمني أن أعترف بأنني، إلى جانب حرماني من التقدير، واجهت عقبات وتنكرا وجحودا من هنا ومن هناك. وعلام كل هذا؟ لا أدري. إذا كنت على حق يتنكر له الناس، أم على باطل يتولى الناس تقويمه. على كل حال إن اعتقادي أنني على حق وأنني كنت مغبونا في قومي. قد أكون مخطئا في اعتقادي، ولكنهم يقولون: لكل مجتهد نصيب، إن أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران.
أستطيع أن أقول إني دائن للناس لا مدين لهم، أنا لا أحاسب المجتمع على ذلك، بل إني لمغتبط أن ينتهي بي المطاف أن أكون دائنا لا مدينا. أليس من قواعد المثالية أن يضحي الإنسان للمجتمع؟ فها أنا ذا أؤدي ضريبة التضحية على أوسع نطاق، فلماذا أغضب ولماذا أحنق؟! وفي الواقع إن الأمم لا تنهض إلا بمن يضحون من أجلها، ولكن لا ريب أيضا أن الأمة التي تبخس المواطنين والمجاهدين أقدارهم تخذل في نفوس الناس روح الإخلاص في خدمتها؛ لأن الناس ليسوا في الغالب ملائكة يحتملون هذه المعاملة، ولعل هذا الخذلان من أهم أسباب تأخر الأمم الشرقية. (4) معارضتي لمعاهدة سنة 1936
أحاط الوفد معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 بدعاية واسعة النطاق، صاخبة الأساليب، فأكثر من رسائل التأييد والتحبيذ لها، وأقام الحفلات والمظاهرات ابتهاجا بها وعدها فتحا مبينا، وقال عنها النحاس قولته المشهورة التي اتخذت حجة على مصر في مجلس الأمن سنة 1947 وهي أنها «وثيقة الشرف والاستقلال»، واستقبل عند عودته من لندن استقبال الغزاة الفاتحين! فكان هذا الاستقبال وسيلة من وسائل التضليل والدعاية للمعاهدة التي أقرت الاحتلال الأجنبي في البلاد وأقرت فصل السودان عمليا عن مصر.
كانت مهمة المعارضة بالنسبة لهذه المعاهدة مهمة شاقة شائكة؛ إذ كيف يسمع للمعارضين صوت في هذا الجو الصاخب المملوء بدعايات المغالطة والتمويه وبمظاهر الطبل والزمر؟
على أنني بعد أن قرأت نصوص المعاهدة ودرستها وفهمتها على وجهها الصحيح، وجدت أنه لا يجوز السكوت على تضليل الأمة إلى هذا الحد، وأن علينا أن نجهر برأينا في حقيقة المعاهدة سواء أسمع أم لم يسمع، ولئن لم يسمع في حينه فلا بد أن يأتي يوم تظهر فيه حقيقته ووجاهته.
Bog aan la aqoon