وفي يوليو سنة 1941 ظهر كتابي عن «محمد فريد»، ويشتمل على تاريخ الزعيم الشهيد، ثم تاريخ مصر القومي من سنة 1908 إلى سنة 1919، وقد أبرزت النواحي الوطنية والاقتصادية والاجتماعية في حياة الزعيم وتضحياته في سبيل بلاده، مع تاريخ الحوادث والأحداث التي تعاقبت على مصر في عهده. فجاء الكتاب نموذجا للمجاهدين المخلصين الذين تنهض بهم البلاد حقا، وسجلا شاملا لتاريخ مصر في تلك السنين.
إن فريدا لم يعرف فضله حق المعرفة في تاريخ الجهاد القومي، فهو كما قلت في عنوان الكتاب «رمز الإخلاص والتضحية»، ولكن فضله قد غمر في زحمة التقلبات التي طرأت على الحركة القومية، ولعلي بإخراج هذا الكتاب قد أبرزت بعض هذا الفضل حتى لا تضيع الصورة الرائعة الخالدة لجهاد فريد وإخلاصه وتضحياته.
الزعيم محمد فريد:
يتوسط ثلاثة من تلاميذه سنة 1911، وهم من اليمين إلى اليسار: عبد الرحمن الرافعي، الدكتور منصور رفعت، الأستاذ أحمد وفيق. (9) ثورة سنة 1919
وفي أبريل سنة 1946 ظهر كتاب «ثورة سنة 1919» في جزأين، وهو من أهم حلقات هذه المجموعة، وقد قضيت نحو خمس سنوات في تأليفه وإخراجه ، وبذلت في ذلك جهدا كبيرا. وكان ظني أنني، وقد عاصرت الثورة وساهمت فيها، لا أجد من العناء ما بذلته عن العهود التي لم أدركها، ولكني على العكس وجدت نفس الصعوبات التي واجهتها في الحلقات الأخرى.
لقد درست الثورة أولا من ناحية أسبابها ومقدماتها، فرجعت بها إلى عدة سنين سبقت نشوبها، وأرجعتها إلى أسباب وعوامل عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، بعضها قريب وبعضها بعيد، فاقتضاني ذلك أن أدرس من جديد حالة البلاد من هذه النواحي، ودونت نتائج دراستي في الفصلين الأول والثاني من الجزء الأول من تاريخ الثورة.
وبحثت أيضا في توقيت الثورة متى ابتدأت ومتى انتهت، أما بدايتها فمعروفة؛ فقد شبت في مارس سنة 1919 على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، ولكن متى وفي أي سنة كانت نهايتها؟ هنا بحثت طويلا لكي أضع حدا بين تاريخ الثورة وتاريخ في أعقاب الثورة، فانتهى بي البحث إلى أنها بدأت في مارس سنة 1919 واستمرت حوادثها إلى شهر أغسطس، وتجددت في أكتوبر ونوفمبر من تلك السنة. أما وقائعها السياسية فلم تنقطع واستمرت متتابعة إلى شهر أبريل سنة 1921؛ أي إنها مكثت مشبوبة الأوار نيفا وسنتين، هذا في وجهة نظري هو عمر الثورة، ثم أعقبها انقسام داخلي يختلف وإياها في الحوادث والروح والاتجاهات. وقد ضننت بتاريخ الثورة المجيد أن أدمج فيه هذا الانقسام؛ إذ رأيت من الإنصاف لها أن لا يشمله تاريخها، وجعلته فصلا من كتاب «في أعقاب الثورة المصرية».
درست وقائع الثورة وحوادثها من مارس سنة 1919 إلى أبريل سنة 1921، وبالرغم من أن صورها عالقة في ذهني؛ فإن بعض هذه الحوادث استلزم البحث والتمحيص لمعرفة تاريخ وقوعه على وجه التحقيق. وكانت المراجع قليلة نادرة لأن الصحف التي كانت تظهر في أيام الثورة كانت لا تنشر إلا ما تأذن الرقابة بنشره، وكانت الرقابة تحذف أهم حوادث الثورة، والمذكرات التي كنت أدونها في حينها كانت مقتضبة؛ إذ كان الظن أن تكون عرضة في كل وقت لضبطها ومصادرتها فعلام الجهد في التدوين والإسهاب.
وكان مما عنيت به واقتضى مني عناء كبيرا تسجيل تضحيات الشعب وجهاده، وقد استنفدت الناحية الشعبية معظم صحائف الكتاب، وهي الناحية التي هداني البحث منذ اللحظة الأولى إلى أنها عماد الحركة القومية، وهذا ما حدا بي إلى البحث والتنقيب عن أشخاص شهداء الثورة لكي أسجل أسماءهم، وهم في الغالب شهداء مجهولون، معظمهم من بيئات مجهولة، ومن غير البيئات التي تنازعت فيما بعد مجد الثورة وثمرتها. ومن ثم قضيت زمنا طويلا في البحث عنهم، ولم يكن من الميسور أن أتعرف أسماءهم وتواريخ استشهادهم لأن الصحف لم تكن تنشر أسماءهم، فرجعت إلى ذويهم وأقاربهم وإلى دفاتر الوفيات في مختلف الجهات، ومن حسن الحظ أن نسخا منها كانت محفوظة في دار المحفوظات بالقلعة فرجعت إليها، ومع ذلك فقد وجدت صعوبة كبيرة في إحصائهم؛ إذ لا يذكر في دفاتر الوفيات أن فلانا استشهد في الثورة، ولكن ملابسات الوفاة مضافا إليها معلوماتي الخاصة كانت تعينني على معرفة أسماء أولئك الشهداء.
وثمت صعوبة أخرى، وهي معرفة أسماء المحكوم عليهم في محاكمات الثورة. لقد رأيت ضرورة التحدث عن هذه المحاكمات، وكانت تجرى أمام المحاكم العسكرية البريطانية، ولم تكن الصحف تنشر عنها إلا النزر اليسير، وكنت أعرف معظمها، ولكن لم أكن أعرف أسماء المتهمين والمحكوم عليهم فيها، فأخذت أتقصى أسماءهم من بعض زملائهم أو ذوي قرباهم، وراسلت الكثيرين منهم، فأمدني البعض بما لديهم من المعلومات واعتذر البعض الآخر لقدم عهدها ونسيان أسماء المتهمين فيها، وما أكثر ما تنسى الحوادث وتنسى الأشخاص في بلادنا! وأردت أن ألجأ إلى دفاتر مصلحة السجون؛ فإنها ولا شك تحوي أسماء المحكوم عليهم في كل عام، ونوع الأحكام، والمدة التي قضاها كل محكوم عليه في السجن، وأسماء من نفذت فيهم أحكام الإعدام، وبعد أن رخصت لي المصلحة بالاطلاع على هذه الدفاتر - لأنها موجودة فعلا في محفوظاتها - عادت وتمحلت الأعذار في رفض إطلاعي عليها، وكان مما اعتذرت به أن هذه مسألة قانونية يجب استفتاء أقسام القضايا بما يتبع في شأنها. ولم تصدر أقسام القضايا وقتئذ فتوى بالترخيص لي بالاطلاع على هذه الدفاتر بعد أن علمت غرضي من الاطلاع بحجة أني لا أعد من أصحاب الشأن أو ذوي المصلحة في الاطلاع عليها، فكأن وضع تاريخ قومي للبلاد مهمة غير مرغوب فيها، وقد فهمت أن نكول المصلحة عن اطلاعي على هذه الدفاتر يرجع إلى أنها أرادت مجاملة الإنجليز في عدم تيسير مهمتي في التعرف على أسماء من حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام معظمها لا يقره عدل ولا إنصاف. وقد عانيت جهدا كبيرا في تقصي هذه الأحكام، وعاونني في ذلك بعض كرام المحامين الذين ترافعوا فيها، وأطلعوني على معلوماتهم عنها وأسماء المحكوم عليهم في معظمها، ودونت المحاكمات والأحكام وأسماء المحكوم عليهم في كافة القضايا العسكرية الهامة. (10) في أعقاب الثورة المصرية
Bog aan la aqoon