عادت بي الذكرى إلى مظاهرات اشتركت فيها وأخرى شهدتها منذ سنة 1908، كمظاهرة طلبة الحقوق سنة 1908 لمناسبة عرض جيش الاحتلال في ميدان عابدين، وموكب الذكرى الأولى لوفاة مصطفى كامل (11 فبراير سنة 1909)، ومظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة وإعادة قانون المطبوعات (مارس-أبريل سنة 1909)، ومظاهرات المعارضة في مشروع مد امتياز قناة السويس (يناير-أبريل سنة 1910)، ومظاهرات الاحتجاج على الكولونل تيودور روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة لمناسبة خطبته في مناصرة الاحتلال (مارس سنة 1910)، ومظاهرات الشباب تكريما للمرحوم فريد بك (ديسمبر سنة 1910)، ومظاهرات المطالبة بالدستور سنة 1910 وسنة 1911، ومواكب الذكريات السنوية لوفاة مصطفى كامل، وغير ذلك من المظاهرات الوطنية، وأخذت أقارن بينها وبين مظاهرات سنة 1919، فرأيت أن غرس الوطنية قد نما واشتد على تعاقب السنين؛ إذ إن مظاهرات سنة 1919 وإن كانت استمرارا لمظاهرات السنين السابقة إلا أنها في مجموعها أضخم منها وأكثر جموعا وجنودا، ولم تقتصر على العاصمة بل عمت مدن الوادي وقراه، وبدا لي فيها أن روح التضحية والفداء قد تغلغلت في نفوس الشعب أكثر مما كانت من قبل، وكان هذا دليلا على تطور الروح الوطنية واتساع مداها. وكان الذين يسيئون الظن في وطنية هذه الأمة يعتقدون أن الإرهاب كفيل بإخماد الحركة في مهدها، وأخذوا في صحفهم المناصرة للاحتلال يزجون إلى الشباب نصائح معكوسة بحثهم على الخضوع والاستسلام تحت ستار الإشفاق على مستقبلهم، ولكن هذه الظنون قد تلاشت أمام استمرار الإضراب واتساع المظاهرات واستمرارها في الأيام التالية، بالرغم من أن السلطة العسكرية قد تصدت لها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين منذ يوم 10 مارس، فلم يرهب الناس القتل وأخذوا يألفون رؤية الدم المسفوك في الشوارع، وتقبل الشعب، شبابه وسائر طبقاته، التضحية بلا خوف ولا تراجع، فكان لهذه التضحية وهذا الإجماع الرائع أثرهما في رفع صوت مصر عاليا مدويا في أرجاء العالم، بعد أن كان خافتا طيلة سني الحرب، وأخذت الصحف التي كانت تمالئ الاحتلال وتزدري بالأمة طوال السنين تغير أسلوبها وتتملق الشعب وتكتب عنه وعن مطالبه الوطنية بلهجة جديدة ملؤها التقدير والإعجاب.
رأيت الجماهير يشتركون في المظاهرات ولا يبالون ما يستهدفون له من الأخطار، كانوا يواجهون رصاص البنادق والمدافع الرشاشة (المتراليوزات) بشجاعة لا تقل عن شجاعة الجند في ميادين القتال، وسقط كثيرون منهم قتلى أثناء المظاهرات.
كان إذا سقط رافع العلم في موكب المظاهرة مضرجا بدمائه، تقدم غيره ورفع العلم بدله مناديا بحياة الوطن، فيردد إخوانه نداءه.
كان الجرحى منهم لا ينفكون ينادون بحياة مصر والدم ينزف منهم، وكثيرا ما شاهد المارة مركبات الإسعاف تحمل جريحا في مظاهرة يسيل دمه ومع ذلك يرفع ستار المركبة وهي تسير إلى مركز الإسعاف ويطل على الناس وينادي: «نموت ويحيا الوطن!»
تبدلت حالة الشعب النفسية بتأثير الثورة، وحاكى في الضحية أرقى الأمم وطنية وإخلاصا.
ويتصل بهذا السياق أن رجال البوليس قبضوا في إحدى المظاهرات على جماعة من الطلبة المتظاهرين وساقوهم إلى القسم واعتقلوهم به، فلم يكد إخوانهم يرون هذا المشهد حتى تقدموا جميعا إلى القسم وطلبوا أن يقبض عليهم كلهم لأنهم قد اشتركوا مع إخوانهم المعتقلين فيما يسميه البوليس جريمة، وأنهم شركاء معهم فيها ولا يريدون أن يختص زملاؤهم بشرف التضحية والألم في سبيل الوطن، فكان لهذا التضامن البديع وهذه التضحية أثر بالغ في نفوس الشعب.
كانت هذه المشاهد وغيرها دليلا ناهضا على أن الحركة الوطنية قد خطت خطوات واسعة إلى الأمام، وقوي فيها عنصر الإخلاص الذي هو أساس الوطنية الحقة؛ فإن هؤلاء الذين استهدفوا للأذى والقتل لم يكونوا ينتظرون جزاء ولا مكافأة على جهادهم، بل كانوا يشعرون وهم يجودون بحياتهم أنهم يؤدون واجبا نحو بلادهم فحسب، وتلك لعمري أقصى درجات الإخلاص والبطولة.
ومن المشاهد التي أثرت في نفسي مناظر جنازات الشهداء؛ فقد كانت هائلة حقا. كانت الجموع تسير فيها دون أن تعرف شخصية الشهيد أو الشهداء الذين تشيع جنازاتهم، بل دون أن يعرف المشيعون بعضهم بعضا. كان يكفي أن يذاع أن جنازة أحد الشهداء ستشيع في ساعة ما من مكان ما حتى يجتمع الألوف من الناس من مختلف الأوساط والطبقات يسيرون فيها يعلوهم الحزن العميق. لم نكن نسمع فيها عويلا أو نحيبا، بل كنا نرى جلالا وخشوعا، وحزنا رهيبا يتخلله الهتاف بين آونة وأخرى بحياة ذكرى الشهداء والتضحية وضحايا الحرية. فكانت هذه الجنازات مظاهر رائعة لتقدير الشعب معاني التضحية والبطولة، كانت بعثا جديدا لحياة جديدة.
كان الظن عندما وقعت الحوادث الأولى في ثورة سنة 1919 أنها مقصورة على العاصمة، ولكن لم تلبث أن غمرتنا الأنباء من مختلف الأقاليم بأن مظاهرات قامت فيها على غرار مظاهرات القاهرة وزاد عليها قطع السكك الحديدية، وشهدنا بأعيننا انقطاع المواصلات بين العاصمة والأقاليم كما انقطعت بين أحياء القاهرة نفسها، فأدركنا أننا أمام ثورة عامة شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها، وفي الحق إنني مع ما أشعر به من ميل دائم إلى التفاؤل، لم أكن أتوقع أن تقوم في البلاد ثورة في مثل هذه الظروف، وبمثل هذا الاتساع، وبتلك السرعة والقوة والروعة التي تجلت في سنة 1919. ولم أكن أنا وحدي في هذا الشعور، بل إن فريدا رحمه الله حين بلغته وهو في منفاه أنباء الثورة عدها من الحوادث المفاجئة، وقال عنها في مذكراته: «من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل بمصر في شهري مارس وأبريل من هذه السنة (1919) وهو قيام ثورة عامة اشتركت فيها الأمة بجميع طبقاتها.» وقال عنها أيضا: «إن هذه الحركة لم تكن في الحسبان، وإن ما أظهره المصريون من التضامن والاتفاق ما كان أحدهم ليحلم به.»
تتابعت حوادث الثورة، وارتسمت في ذهني صورة واضحة عنها، وأدركت مع الأيام عظم مداها.
Bog aan la aqoon