محلنا المختار
وكان السائر في شارع عماد الدين يشاهد على يساره، بعد أن يجتاز شارع فؤاد الأول، مقهى كان يديره أحد النزلاء اليونانيين (ومن غيرهم يا ترى يفتح في مصر المقاهي). وكان اسم هذه المقهى (متروبول).
وأرجع بالقارئ العزيز إلى ذلك العهد الذي أتحدث عنه، فأقول إن إخواننا «المنشقين» عن فرقة أبيض وحجازي، جعلوا من مقهى «المتروبول» هذا محلا مختارا يأوون إليه إذا ما ارتفع قرن الغزالة (هذا خيال بديع، أرجو أن يسامحنا السادة البلغاء في استعارته)، ومعناه بالعربي الذي أفهمه أنا ويفهمه رعايا كشكش بك من سكان عمدية كفر البلاص وضواحيه، معناه عند طلوع الشمس، فعند طلوع الشمس كان «جرسونات» قهوة متروبول يستقبلون وفودنا و«يصطحبون» بوجوهنا. وكنا إذا جلسنا لا نغادر المكان إلا ساعة التشطيب بعد منتصف الليل بساعتين على الأقل. أمال إيه ... حانروح فين ... لا وظيفة ولا يحزنون!
كانت هذه القهوة دارا للندوة، أو برلمانا يعقده الممثلون، فيتناقشون في أقرب السبل للحصول على المال الذي يستطيعون به أن يؤلفوا فرقتهم المشتهاة.
حصانة جرسونية
وقد رأى - الله يرضى عنهم - الجرسونات أننا أصبحنا (بمضي المدة) أصحاب محل، وبذلك ينطبق علين قانون الأعضاء. وهذا القانون ينص على أنه إذا جلس واحد منا، فلا لزوم لأن يتقدم الجرسون، «متمسحا» لمسح الطاولة، أو «تطويقها» في حركة الانتظار التقليدية إياها ... لعل الزبون «يحس» من نفسه، فيطلب «اللكوم» أو السكر زيادة أو واحد مضبوط على الريحة!
أقول كنا نجلس في هذه القهوة متمتعين بحصانة «جرسونية» وكنا نبني في مناقشاتنا مستقبلا من الآمال. وأذكر أن أحد زبائن القهوة الذين كانوا يترددون عليها كثيرا دون أن تكون لديهم مثل «حصانتنا» واسمه السيد «بحري»!
أذكر أن شيئا من الصداقة تولد بينه وبيننا. فكان بين وقت وآخر، يعطف على بعضنا بسيجارة، أو يحتم أن يطلب لنا طلبا، «واحد قهوة مثلا أو فنجان شاي!».
وقد رأى صاحب القهوة (اليوناني) أن يستفتي السيد بحري في أمرنا، فسأله عنا وعن أحوالنا، وما السبب في معيشة «العواطلية» التي نحياها دون أن نشق لنا طريقا في عباب هذه الحياة؟ فلما عرف منه أننا طائفة من الممثلين، وأنه لا ينقصنا إلا الحصول على مبلغ ضئيل لا يتعدى العشرة جنيهات، أقول لما وقف الرجل على مطلبنا هذا، أظهر منتهى الاستعداد للدفع! فكان ذلك مفاجأة عجيبة لم نكن ننتظرها. وقد أنعم كل منا فكره في تأويل هذه الأريحية التي نبتت مرة واحدة، كما يتفجر الينبوع العذب من الصخر الجدب.
اصرف ما في الجيب
Bog aan la aqoon