وصاروا ينشلونهم واحدا بعد الآخر فيما عدا واحد منهم ظلوا يبحثون عنه أكثر من ساعتين حتى يئسوا من العثور عليه، وعادت قوارب النجاة بمن فيها وانقشع الضباب كأن لم يكن وكأنما تلك الساعة التي خيم فيها الضباب ما مرت إلا ليقع هذا الحادث وليغرق ذلك الرجل المسكين، وكأنها ساعة من ساعات القضاء التي يهبط فيها ملك الموت ليأخذ من اختاره القدر.
وقد وصلت الباخرة إلى نابولي عند المساء، وأمضينا فيها الليل، ثم وصلنا إلى كتانيا في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد 16 أغسطس 1914 وطوال الوقت، ظلت الباخرة تشحن كميات هائلة من البطاطس، فلم نتمكن من النوم. وظللنا في انتظار تحرك الباخرة في قلق، فإننا نخشى أن تعلن إيطاليا الحرب بين آن وآخر، فنحجز في أي بلدة من بلادها.
وعندما قامت الباخرة، فرحنا كثيرا ولكنها ما كادت تخرج من الميناء حتى رأينا زورقا بخاريا يتبعنا ويشير إليها بالعودة، فجزعنا وقلنا في أنفسنا لقد دخلت إيطاليا الحرب. وتمثلت بقول القائل: «لقد كان ما خفت أن يكونا»، ولما سألنا القبطان عن سبب رجوعنا، وصارحناه بمخاوفنا من اشتراك إيطاليا في الحرب، رد علينا مازحا: «لقد شحنا من البطاطس ما يكفي لطعامنا مدة طويلة وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا! ...»
وقد رأيت بعض السيدات يبكين مثلي من هذه المفاجأة السيئة، كانت نقودهن قد نفدت فتساءلن عن كيفية كسب عيشهن وليس لمعظمهن مهنة يتكسبن منها في ظروف الحرب، أما أنا فقد كنت أبكي؛ لأن هذا التأخير يمكن أن يكون سببا في القضاء على حياة والدتي المريضة، أما بالنسبة لأسباب الحياة، فقد كان معي من الحلي والجواهر ما يكفيني ثمنها أنا وأولادي لعدة سنين.
وكنت وأنا في عزلتي داخل الخيمة أسمع إحدى السيدات تقول: إنني أحسن الطهو، فإذا حجزت في إيطاليا، فيمكنني أن أشتغل في بنسيون أو عند عائلة، وأخرى تقول: أما أنا فأحسن الحياكة والتفصيل، ويمكنني إذا احتجت أن أزاول هذه المهنة ... وثالثة تقول: أما أنا فلا أعرف حتى رتق فتق في ملابسي، ولا طهو أي نوع من الطعام، والقيام بالخدمة ... فماذا أصنع؟ ثم أضافت بعد برهة قائلة: أعمل مربية أطفال! ...
كنت أسمع كل ذلك وأسأل نفسي ... ماذا كان يمكن أن أفعل لو كنت في مثل ظروفهن؟
وجدتني لا أحسن الطهو، ولا أجيد الحياكة، ولا يمكنني أن أترك ولدي وأدخل بيتا للخدمة، وأعترف أن هذا كان درسا لي، لأنني بعد ذلك اجتهدت في تعلم الطهو، وتقدمت في فن التفصيل والحياكة.
وعندما عادت الباخرة إلى ميناء كتانيا، عرفنا السبب، وهو أن شركة البواخر طلبت من الإسكندرية تموين الباخرة بالفحم اللازم لرحلة العودة، فرفضت طلبها، ولذلك أعيدت لتتزود باحتياجاتها، وبذلك اضطررنا للبقاء ليلة أخرى موعد وصولنا إلى الإسكندرية أربعا وعشرين ساعة، ولكننا من ناحية أخرى كنا في منتهى الفرحة لعدم دخول إيطاليا الحرب حتى ذلك الوقت.
وقد وصلنا إلى الإسكندرية يوم 19 أغسطس 1914، وقد عجبنا لعدم وجود أحد في انتظارنا إلا الكاتب وفتاة كانت تعلم ابنتي اللغة العربية. وقد شكرتها وفي الوقت نفسه عاتبتها لتكبدها مشاق السفر وهي تعلم أنني لا أستطيع البقاء في الإسكندرية أكثر من ليلة واحدة لأنني في لهفة للقاء والدتي والاطمئنان عليها.
وتوجهنا بعد ذلك إلى محطة الرمل، ولم أكد أنزل من العربة حتى وجدت عامل التلغراف على الباب وسلمني برقية فتحتها بيد مرتعدة، ولما وقع نظري على سطورها، أحسست أن الأرض قد اهتزت وأن الدنيا تدور بي، فقد كان التلغراف يحمل نبأ مشئوما هو خبر وفاة والدتي المسكينة.
Bog aan la aqoon