وقد رأيت الخدم بالفندق محزونين، وبخاصة الخادمات؛ لأن أزواجهن قد طلبوا للتجنيد ولما سألنا مدير الفندق عن الحالة، أجابنا بأنه أمر بإغلاق الفندق وهو قائم بجمع الذهب لإرساله إلى المصارف، وأنه ربما يطلب هو أيضا للخدمة العسكرية.
غادرنا «فيتيل» في أول أغسطس قاصدين «سان موريس» بسويسرا، وكان المفروض أن يصل القطار الذي سنستقله في حوالي الساعة الحادية عشرة، ولكننا بقينا في انتظاره على رصيف المحطة حتى الساعة الواحدة، ولما تأخر موعده حوالي ثلاث ساعات، سألنا ناظر المحطة عن السبب، فقال لنا في غضب: هل هذا يوم سباحة مع أطفال؟ فقلنا له: إننا ما كنا نعلم أنه يوم التعبئة والاستعداد للحرب، ودخلت مطعم المحطة لأشتري شيئا من الطعام للأولاد، فوجدته خاليا إلا من رغيف واحد وعلبة من كبد الإوز، فاشتريتها هي والرغيف وكان الأولاد في حالة جوع شديد، فوزعت عليهم الرغيف والكبد. وكان معي بعض الشيكولاتة، فاحتفظت بها في حقيبتي الصغيرة احتياطيا للطوارئ.
بقينا كذلك حتى الساعة الثالثة، عندما مر بنا قطار لا نعلم مقصده، ولما سألنا ناظر المحطة عن وجهته، قال لنا: «إن اليوم يوم ترحيل الجنود، ولا يعلم أحد إلى أين تسير القطارات.» فركبنا هذا القطار حتى وصل بنا إلى «بلفورت». وفي تلك المحطة رأينا قطارا آخر قيل لنا: إنه قاصد إلى الحدود من جهة سويسرا، وأشارت علينا بعض السيدات الفرنسيات بترك قطارنا وركوب هذا القطار، فنزلنا نحمل أمتعتنا بأنفسنا لعدم وجود الحمالين بالمحطات وكانت تمر أمامنا القطارات تحمل المجندين، ونرى النساء اللاتي جئن لودعاهم، بعضهم يبكي وبعضهم الآخر يحاول أن يخفي آلامه وأحزانه.
وسافر بنا القطار الآخر، وكانت قد ركبت معنا فيه سيدة ألمانية وابنتها، وكانت ترتعد خوفا، وقد أتت هذه السيدة بابنتها والتصقت بي ورجتني أن أحميها وأن أقول إنها في معيتي، وقد وعدتها بذلك وطمأنت خاطرها.
ووقف بنا القطار فترة طويلة في إحدى المحطات، ثم سار بنا في حوالي الساعة العاشرة وكان الأولاد قد جاعوا وعطشوا وكان قد ركب معنا تاجر يهودي مصري وعرفنا بنفسه، فقال لنا: إن هذا القطار سوف يصل بنا إلى قرب الحدود حوالي ساعة، وكان أن أخرجت ما معي من حلوى وقسمته بين الجميع، ووعدنا التاجر بأن يحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة عند وصولنا، وبعد أكثر من ساعة وقف القطار على مسافة قصيرة من الحدود وسمعنا البائعات ينادين باسم نوع من الفطير، فهرول اليهودي ونزل من القطار وجلسنا في انتظار أن يأتي لنا بشيء نأكله، وعلى هذا الأمل لم يتحرك أحد منا، ولما قرب موعد تحرك القطار، صعد التاجر صفر اليدين وهو يقول: حقا، لقد كان طعم الفطير لذيذا جدا، فقلت له: «لعلك تذكرت الأطفال، وأتيت لنا بشيء منه» فإذا به يرتبك ويقول في خجل: «إني آسف جدا ... لقد نسيت!» فلم أستطع أن أمنع نفسي من لومه قائلة: «لقد أعطيتك من زاد أولادي وأنت جائع، فكيف تنساهم؟» ... فلم ينطق من شدة الخجل!
وبعد ساعة وقف القطار مرة أخرى على الحدود؛ حيث كان يجب علينا أن نترك قطارنا ونأخذ القطار السويسري الألماني. وقد حاولت أن انتهز الفرصة لأشرب قليلا من الماء وأحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة، ولكن عبثا حاولت، فقد كانت الألمانيات الجميلات مشغولات بتقديم الطعام والشراب للرجال الألمان ولم ينتبهن إلى أنني كنت أتكلم الفرنسية وهن لا يفهمنها وعدت إلى القطار، وحاولت أن أدخل أولادي إلى الصالون، فوجدت كل الدواوين مكتظة بالألمان، وفي النهاية لم يكن هناك بد من أن نجلس الأطفال على الحقائب وأن نبقى نحن واقفين في الطرقة حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إلى أن وصل القطار إلى مدينة «بال» فنزلنا منه قاصدين أقرب فندق للمحطة.
وما إن وصلنا الفندق، حتى ابتدرنا صاحبه قائلا: إنه لا يوجد لديه مكان واحد، فقلت له: هل تظن أنني سأخرج بأطفالي الصغار بعد الثالثة صباحا للبحث عن فندق آخر، إنني أرى في مقاعد المدخل ما يكفي لإيوائنا هذه الليلة، ولما رأى في لهجتي الإصرار والحزم، قام ليسأل عن أماكن خالية في فندق آخر، واستطاع أخيرا أن يجد لنا أماكن في فندق يقع في «بال» القديمة. وطلب سيارات لتنقلنا إلى هذا الفندق على مسافة نصف ساعة وانتقلنا إلى الضفة الأخرى من نهر الرون، ووصلنا الفندق ونحن في حالة من التعب والإرهاق لا يمكن وصفها: وبخاصة الأطفال، ولم نكد ندخل غرفنا حتى طلبنا من الخادم أن يأتي بلبن وجبن وخبز، فأكلنا ثم نمنا نوما عميقا.
استيقظنا في الصباح على صوت الأطفال يلعبون في الشارع، وقد شعرت بالألم وأنا أنظر إلى هؤلاء الصغار الذين كانوا يضحكون ويمرحون جاهلين كل ما يدور حولهم، غير مدركين أن الحرب سوف تحولهم إلى أيتام بؤساء! ...
وفي يوم الأحد 2 أغسطس 1914، بارحنا «بال» إلى زيورخ؛ حيث وصلنا في الخامسة مساء ... ونزلنا في فندق «بورولاك»، ولم نجد أماكن لائقة رغم أننا كنا قد حجزنا من قبل، ولكن كل الناس كانوا قد هاجروا إلى سويسرا باعتبارها بلد الحياة، ومن كثرة الزحام التزمت الفنادق بالاقتصاد قدر الإمكان في المعيشة والغذاء، فلا يحصل النزلاء إلا على القوت الضروري فقط، وكان علينا أن نتوجه إلى غرفة الطعام للحصول على الإفطار، وانتظرنا في طابور طويل أكثر من نصف ساعة حتى جاء دورنا ...
وذات يوم افتقدنا الملح، فسألنا عن السبب، فقيل لنا: إن هذه بوادر اقتصاد الحرب، وبدأنا نتنزه سيرا على الأقدام بسبب غلاء المعيشة، وصرنا نتحاشى طلب الشاي بعد الظهر؛ لأنه كان يكلفنا جنيها تقريبا.
Bog aan la aqoon