ولقد كانت هذه السيدة الفاضلة مثال العفة والطهر والوفاء والكمال، وكانت تحب أن يتصف كل أصحابها ومعارفها بتلك الصفات النبيلة، ولذلك كانت تحاول دائما أن تبث فيهم هذه الفضائل.
وأذكر في أحد أيام استقبالها أن دار الحديث حول موضوع التقاليد والحجاب، فقالت: إنني رغم إعجابي بالزي المصري وما يكسبه الحجاب للمرأة من روعة وجمال، فإنني أشعر بالأسف في الوقت نفسه؛ لأنه يحول دون تقدمها ويحرمها التمتع بقسط أوفر من التعليم والرياضة البدنية، ولذلك تتعرض للبدانة، كما أنه في الأوساط الغربية يظن الكثيرون أن الحجاب أداة تستر على ما خفي تحته، ولذلك يرجع كثير من السائحين إلى بلادهم بفكرة خاطئة؛ حيث إن بعض من يقودونهم إلى المنازل الساقطة، كثيرا ما يدخلون في روعهم أنهم يقدمونهم لسيدات من العائلات الكبيرة، فيعودون إلى بلادهم مشبعين بهذا الاعتقاد الخاطئ ... ويكتب بعضهم ما يمليه عليه خياليه الضال واعتقاده الفاسد. ثم انتقلنا للحديث عن كتابها «حريم ومسلمات مصر» الذي قدمته باسم مستعار. وقالت: لقد كان غرضي من هذا الكتاب هو وصف حياة المصريين على حقيقتها ليعلم الإفرنج أنهم ظلوا يسيئون الظن بهم طويلا، ولأقنعهم بأن المصريين في عاداتهم وتقاليدهم لا يختلفون عنهم إلا قليلا، بل لقد ميزهم دينهم الحنيف بما فيه من حكمة وعدالة على غيرهم من البشر.
وقالت: إنني بدأت في تأليف كتاب آخر أبين فيه سوء حال المرأة المصرية كزوجة وأم من جراء التقاليد والعادات البعيدة عن الدين، فالحقيقة أن الدين الإسلامي قد أنصف المرأة أكثر من أي دين آخر، وسأسمي هذا الكتاب «المطلقات»؛ حيث إني حضرت عدة جلسات في المحكمة الشرعية، وتألمت كثيرا لتعاسة المرأة المصرية وبخاصة الفقيرة وظلم الرجل لها.
وقد سألتها عما إذا كانت تقبل الزواج من رشدي باشا فيما لو عرفت مثل هذا من قبل؟ فقالت: نعم ... كنت تزوجته لأني قدرت فيه كرم الأخلاق وأحببته، ولا سيما أنني كنت أعلم أن الدين الإسلامي يحرم الخمر والميسر، ولقد كان زوج أختي من المدمنين على الشراب المولعين باللعب، ولذلك كان ينغص عليها حياتها، كما فقد معظم أمواله، فلما طلبني رشدي، فرحت به لعلمي بأن دينه يحرم عليه هذين المنكرين، وأنه بذلك لن يجلب لي من التعاسة ما جلبه زوج أختي لها.
وقد سألتها عما إذا كانت لا تزال على رأيها الأول في أن المسلمين بحكم دينهم لا يشربون الخمر ولا يقربون الميسر ... قالت: لا مع الأسف، ولو أنني عرفت ذلك، لما تزوجت رشدي رغم حبي له ... ليس لهذا السبب فقط، وإنما لما يتكبده الأزواج مختلفو الجنسية من جراء التصادم الناشئ عن اختلاف العادات التي يتعذر على كل منهم التخلي عنها دون تضحية أو ألم. ويؤلمني أن أغلب الإفرنجيات اللاتي تزوجن من المصريين هن من طبقات لا أحب أن يظن أحد أنني منها.
ثم أضافت: ومع كل ما قدمت من حديث، فإنني سعيدة وقريرة العين بحياتي الراهنة. وأكبر دليل على عدم أسفي وامتزاجي بالأسرة المصرية أنني أعددت لي قبرا بالإمام بجانب قبر زوجي كي لا نفترق في الدنيا أو في الآخرة.
ونظرت إليها في دهشة، فإذا بها تقول أمام صاحباتها الفرنجيات: ألا تعلمين أني اعتنقت الدين الإسلامي منذ زواجي من رشدي، وأنني الآن مسلمة وأريد أن أدفن في مقابر المسلمين ... ولقد كتبت ذلك في وصيتي لأهلي.
حقيقة إن صديقتي كانت وقتئذ الوحيدة بين الإفرنج التي أمكنها أن تدرس وتتفهم وتقدر أخلاق المصريين وصفاتهم ... وكانت تعرف كثيرا من الأمثلة العربية الدارجة، وتحيط بكثير من العادات والتقاليد التي لا تعرفها كثيرات من المصريات أنفسهن.
وكثيرا ما كنا نتريض في طريق الجيزة أو في حدائقها. وكان يدور حديثنا غالبا حول البحث عن الطريقة العملية المجدية للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها. وقد استقر رأينا على أن نبدأ مشروعنا بتوجيه المرأة إلى ممارسة الرياضة البدنية أولا، وتنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها في دراسة الفنون والآداب، وذلك بعقد اجتماعات تجمع بين الرياضة الفكرية والرياضة البدينة ... وقررنا أن نبدأ بإعداد ملعب للتنس في حديقة مصطفى رياض باشا؛ حيث كانت أوسع من غيرها وأنسب إذ كانت محوطة بسور مرتفع يحجبها عن الأنظار، واتفقنا أن نعرض هذا الموضوع على صديقتنا شريفة هانم رياض، فرحبت بالفكرة، وبعد أن حصلت على موافقة زوجها أعدت الملعب وأقامت سرادقا بالحديقة ليكون بمثابة استراحة للاعبات، ولنجتمع فيه لتبادل الآراء والمحادثات الأدبية ... ثم دعونا يوم استقبالها لعرض المشروع على الزائرات في ذلك اليوم ... ولن أنسى ما أصابنا من خيبة وفشل عندما شرحنا الموضوع لسيداتنا ودعوناهن للنزول إلى الملعب فلم تتحرك واحدة منهن ... وانتهى الأمر بأن انتفع به أولادنا بدلا من أمهاتهم.
وأذكر هنا أيضا أنه في ذلك الوقت نفسه، كان المرحوم رشدي باشا وبعض أصحابه يفكرون في تكوين جمعية ومؤسسة لرعاية الأطفال، وقد طلبوا من شريفة هانم رياض كما طلبوا منا أن نكون لجنة من السيدات تشترك معهم في تحقيق هذا المشروع، فحبذنا الفكرة، وقررنا في أول اجتماع لنا وضع لائحة داخلية لهذه اللجنة، وكلفت سكرتيرة اللجنة بتحضيرها، بينما قامت الأعضاء بتجهيز ما يلزم للعرض والبيع في سوق خيرية تقام لصالح المشروع. وأثناء ذلك قدمت السكرتيرة اللائحة، فإذا بها تتضمن بنودا أو شروطا أوجبت تذمر أغلب الأعضاء، فانسحبن من عضوية اللجنة، ومن ذلك مثلا ارتداء زي خاص بأعضاء اللجنة، وضرورة حصول كل عضو تريد الالتحاق بالجمعية على تزكية من عضوين مع شهادتهما بحسن سيرها وسلوكها. وهكذا انفضت اللجنة ... وخاب أملنا في إيجاد رابطة أدبية لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن.
Bog aan la aqoon