ومن الأعياد التي كانت تدخل السرور علينا، مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كنا نخرج في المساء لنشاهد الصواريخ والسرادقات الجميلة ... ونشتري حلوى المولد من عرائس وخيل وغير ذلك من مختلف أنواع حلوى المولد.
أما يوم وفاء النيل، فكان له في نفوسنا روعة كبرى؛ حيث كنا نتخيل ما نسمعه من أن القدماء كانوا يزفون إلى النيل في ذلك اليوم أجمل فتاة مصرية، وكنا أحيانا نمضي الليلة في ذهبية المرحوم علي باشا فهمي، وكان منظر النيل في تلك الليلة بأنوار الذهبيات والمراكب المزدانة بالأعلام والأزهار والأنوار الملونة.
إن كل عيد من هذه الأعياد كان حقا مظهرا من مظاهر الاحتفاظ بالقومية المصرية الرائعة، التي نأسف أشد الأسف لتضاؤلها واضمحلالها بانتشار التقليد الإفرنجي في بلادنا، وميل الجيل الجديد إلى الاحتفال بالأعياد الإفرنجية بدلا من إحياء أعيادنا الوطنية الرائعة وتمجيدها وتخليدها كما يفعل الأجانب في بلادهم بأعيادهم الدينية والقومية ...
الفصل الخامس
لا يستطيع أحد أن يتحدث عن طفولته وذكرياته، وينسى البيت الذي نشأ فيه، وذكريات الطفولة في أرجاء هذا البيت.
وأذكر من طفولتي أنني كنت أجد تسلية كبرى في مشاركة مربياتنا في أداء الأعمال المنزلية المختلفة مثل نظافة البيت وغسل الملابس. وكن في البداية يتذمرن من اشتراكي في هذه الأعمال، ولكن عندما وجدنني جادة وراغبة، اشترين لي طستا صغيرا للغسيل، ولكنهن لم يكن يسمحن لي باستخدام المكواة إلا نادرا؛ لأنها كانت تملأ بالفحم، وكن يخشين علي من رائحة الفحم المحترق ومن تطاير الشرر من فوهتها.
إنني أجد سعادة قصوى في تذكر تلك الأيام النائية، وبخاصة عندما أصطدم ببعض العادات الحديثة التي تدفعني إلى استرجاع الماضي وما كان فيه من عادات وذكريات.
أذكر مثلا بيتنا الكبير ذا الحجرات الفسيحة والبهو الواسع، والذي كان يغص بالجواري والمماليك. كانوا مدربين على العمل، مخلصين في أداء واجباتهم، شاعرين بالمسئولية الملقاة على عواتقهم، محترمين مخدوميهم، محافظين على ما بين أيديهم من الأشياء، محبين لصغار مخدوميهم الذين ولدوا بين أيديهم، كل واحد يقوم بعمله خير قيام، ويشاركنا في السراء والضراء، ولا تمتد يده إلى شيء مهما كانت قيمته، ولا يطمع إلا في رضاء أولياء أمره. وكنا نبادلهم هذا الحب، ونقدر لهم هذا الإخلاص.
واليوم، أغمض عيني وأستعيد ذكريات الغرف الخالية واحدة بعد الأخرى، فأرى والدتي جاثية على ركبتيها تفصل ثيابنا فوق ملاءة بيضاء مفروشة على البساط في وسط غرفتها، أو جالسة على الشلتة وأمامها ماكينة اليد التي تحيك بها ثيابنا، أو تلعب الطاولة أو الورق مع صديقاتها مبتسمة متهللة إذا كانت هي الغالبة، أو تناقش بعض الأمور فيرتفع منها الصوت الذي تعودناه هادئا، وهي تدافع عن وجهة نظرها.
Bog aan la aqoon