أنا ما أردت الذهاب إلى البلفيدير إلا لأمتع نفسي بتلك الطبيعة الجميلة الساحرة، وبأسراب الغواني المتخطرات بين الغصون الوارفة وخلال الخمائل تنمقها أوراد الأشجار البنفسجية، ولكي أجلو عن نفسي ما ران عليها من أقذاء الاجتماع وما علق بها من أباطيل الناس وأوهامهم وظلال الجدران الكئيبة العابسة.
وأين أجد هذا، وهذا الجو المكفهر لا ينجلي إلا عن عاصفة هوجاء أو وابل هتان.
إن منظر العاصفة - تتأوه بين الغصون وتهز جذوع الأشجار - جميل رائع، ومرأى المطر - يتساقط فوق الأعشاب ويقبل أوراق الورود - بهيج أنيق. ولكنه ليس بهيجا ولا محببا لفتى يعتقد أنه إن شاهد هذا المشهد فلا يرجع إلا مهشم الرأس أو بليل الثياب كالطائر الطريق.
لا تغامر يا شابي وارجع إلى عشك، واستخلف الله في هذا التعب الضائع والخيبة المرة.
وهكذا رجعت إلى غرفتي الصامتة، وجلست إلى المنضدة وأنا ناقم أشد النقمة ساخط كل السخط. وذهبت أفكر أفكارا كثيرة مضطربة، ولكن عبث الطبيعة لم يقف عند هذا الحد. فإنني ما جلست إلى المنضدة أفكر حتى رأيت خيطا من أشعة الشمس ينحدر إلي من النافذة فيلقي على المكتب رواء جميلا، ويغمر البيت كله بضياء بهيج.
لقد كانت آخر ابتسامة من بسمات الحياة الساخرة. وهكذا راق للقدر أن يعبث بي مرات ثلاثة، ما فرغت من واحدة حتى تلقتني الأخرى بدون إنذار.
وبعد حين توارت الشمس وراء السحب الكثيفة المتراكمة. وكذلك غادرني ذلك الشعاع الجميل بعد أن سخر بي سخرية شيطانية قاسية، وتركني أكاد أتميز من الغيظ. «حينما أخذت أكتب لم أحسب أن الكتابة ستكون طويلة بهذا المقدار، وإنما هي المعاني والصور قد كانت تتابع نفسي آخذة برقاب بعضها».
السبت 4 جانفي 1930
النهار صحو جميل كأيام الربيع، والشمس مشرقة سافرة، والسماء مجلوة صقيلة تغمرها أشعة الشمس، فتنعش النفس وتستهوي المشاعر. وفي النفس شوق إلى مناظر البرية الساحرة، فما الذي يصدك عن الذهاب إليها وأنت بها المغرم المفتون؟
هكذا حدثتني النفس، وكانت الساعة الحادية عشرة، فاستشرت رفيقا لي في اصطحابه لهاته النزهة الخلوية الجميلة، فأجابني أنه يؤثر لو ذهبنا بعد تناول الغداء. فلبثت أنتظره، ولما أنهينا ما بقينا لأجله أخذت برنسي بيميني، وأوصدت باب غرفتي، وذهبت إليه - وكانت الساعة الواحدة بعد الزوال - أستعجله لنزهة الظهيرة بين المروج. ولكن اعتذر بأنه لا يستطيع أن يرافقني لهذا المكان البعيد حيث إنه ضرب موعدا على الساعة الثانية، وساعة واحدة لا تكفي للنزهة وموافاة صاحبه عند الوعد. فلم أزده كلمة وغادرته، وبي من السخرية به أكثر مما بي من الغضب منه؛ لأنني علمت أنه لا وعد ولا صديق، وإنما هي وسيلة اتخذها ليتخلص بها من جمال المروج، حيث إن صاحبنا لم يكن يشغف بما أشغف به، ولا يستخفه من مناحي الحياة ما يستخف نفسي ويهز أوتارها. ولا أطيل فقد غادرته صامتا، وأنا أسرع الخطى إلى حيث أجد المروج الخضراء والروابي الجميلة تموج بالعشب الجميل وتعبق بها الرياحين البرية.
Bog aan la aqoon