يريد بها وعده في مقاله بأنه سينشر كلمة أخرى في بعض مآخذه على الكتاب من جهات أخرى.
أتحسب يا صديقي إذا أن «شيطان الانتقاد» ما خلق إلا لزرع بذور الشقاق بين الأحباء؟ أو تخال أنني بانتقادك على بعض آرائي ربما أبت أسباب المودة التي بيننا؟ لتسمح لي يا صديقي أن أخالفك.
فإن رأيي في الانتقاد أنه ليس «شيطانا» يبث بذور الشقاق وإنما هو ملاك يحمل سراج الحقيقة في سبيل الإنسان. وإن رأيي في الصداقة أنها ليست بمعنى عبودية الفكر، ولكنها حرية «النفس». فإنني حينما أجلس إلى صديق أحس بإشعاع الحياة في نفسي، وحينما أجلس إلى عدو أحس بضيق الحياة فيها. وهاته الحرية التي تحس بها النفس بجوار الصديق ليس معناها عبودية الفكر وتكبيل الضمير؛ لأن الحرية لا تنتج الاستبعاد، ولأن صديقي الذي يحترم نفسه ويقدر عقله الذي وهبته الحياة إياه هو الرجل الذي يكون جديرا بمحبتي واحترامي. أما الرجل الذي أحبه وأستعبده بحيث يصبح ظلا لكل أفكاري وخواطري، فإنني أشفق عليه أكثر مما أحبه، وأرثي له أكثر مما أحترمه.
وبعد ذلك، فقد رأيت رسالته الانتقادية. وهي رسالة قيمة قد لخصت الأدوار الأدبية التي مرت بها الآداب الفرنسية من عهد النهضة «الرينيسانس» إلى عهد الأدب الواقعي بصورة لم أر من كتب بمثلها في دقة تصوير الحالة، وبراعة التحليل، رغم إيجازها. وقد وددت لو أعطيتها إلى الأخ زين العابدين يوم التاريخ لينشرها في «العالم»، ولكن ليس في الإمكان أن يتسلمها اليوم. وإذا فإلى الغد وسأبذلن جهدي حتى تنشر في العدد الوشيك الظهور.
السبت 25 جانفي 1930
خرجت اليوم من إدارة العدلية قبل الوقت الذي ألفت أن أخرج فيه، وذلك لكي أذهب إلى الأخ زين العابدين، وأسلمه مقال الأخ الحليوي الذي ضمنه نقدا على بعض آرائي الواردة في «الخيال الشعري عند العرب».
دخلت المطبعة فإذا به يصحح بعض مسودات «مجلة العالم» وبإزائه الأخ مصطفى خريف يتصفح مجموعة السياسة الأسبوعية. وقلت: السلام عليكم. فقالا: وعليكم السلام. وعلى إثرها ابتدرني الأخ زين العابدين وعلى ثغره تلك الابتسامة التي لا تفهم قائلا: «لقد كنا نغتابك». فأجبته قائلا: «عجيب! حسن! بارك الله فيكما». وإن كنت إلى الآن لا أدري ماذا يعني بالاغتياب، لأنه تارة يستعمله بمعناه العربي الصحيح، وأخرى بمعنى المدح والإطراء، ولكن هذا لا يهم، وعلى كل فهي دعابة صديق.
وتقدمت منهما، وناولته رسالة الحليوي، وسألته أن تنشر في هذا العدد من «العالم». فقال: «لقد سلمنا لصاحبك تسليما أعمى، رغم أننا لا نعرفه، وعلى كل فسننشرها رغم طولها لأنها تتعلق بكتابك. ثم عقب على ذلك باسما: ولا تحسب أن كونها في كتابك هو الذي جعلني أغتفر ما فيها من طول، ولكن الذي جعلني أتسامح فيها هذا التسامح، هو كونها كتابة عن كتاب تونسي حديث»، فضحكنا جميعا، ثم أخذنا في حديث مختلف الألوان والمطاعم، وفارقتهما مسرعا.
وانقضى نصف النهار الأخير بين أعمال إدارية غثة باردة متراكمة كالجبال، ومحادثة مع بعض الرفاق خلال ذلك، واستماع لدرس قانوني تتخلله قصص ممتعة ودعابات مستحبة من دعابات الأستاذ «لاموت»، ومطالعة قانونية مع بعض رفقائي يتوسطها جدال وحوار، يلين حينا ويشتد أحيانا، ويعتدل آونة ويعنف أخرى، حتى ليخالنا الأجنبي سنثب إلى بعضنا لطما ولكما وركلا وصفعا، وما هي من ذلك في شيء. وفي مثل هاته الأشياء انقضى نصف النهار الأخير.
الأحد 26 جانفي 1930
Bog aan la aqoon