Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Noocyada
4
لا أريد أن أحكم في هذا القول، أهو عين صواب، أو هو بالحري وصف تخيلي لشاعر متفنن؟ وليست غايتي أن أنسب له حل هذا المشكل العويص، ولكن يمكننا أن نعتبر هذا البحث من وجه آخر، فنحصره في حدود معلومة، ولا يخفى علي بأنه يلذ القراء أن يستقروا أخبار الشعوب جيلا بعد جيل ليعرفوا مهد الجنس البشري، ويتبينوا موقع الفردوس الأرضي، لكن هذا البحث يخرج عن حيز الممكنات، وإنما نستطيع أن نقتصر في البحث عما ورد في تاريخ السلالتين العظيمتين من السلالات البشرية، اللتين لعبتا في العالم أشرف الأدوار، نريد الأمم السامية والهندوأوروبية، فنقول:
إن المذهب الشائع بين العلماء في موطن بني سام الأصلي أنهم ظهروا في شبه الجزيرة التي موقعها بين خليج العجم والبحر الهندي والبحر المتوسط، أعني في مربع عظيم تشغل سورية جهته الغربية، لا نجهل أن غيرهم من المستشرقين يجعلون أصل الساميين في أفريقية، ويزعمون أنهم تخطوا منها إلى آسية. فرأيهم هذا يستدعي بحثا، لا يسعنا الآن الخوض في غمره. وما لا شبهة فيه أن مهد الساميين التاريخي - حيث يظهرون في نور التاريخ، فنتبع أعمالهم وأخبارهم دون ريب، ونميز خواصهم التي تفرزهم عن غيرهم من الأمم في القرون التالية - قد كان موقعه في المربع الكبير الذي ذكرناه آنفا، سواء كان هذا المقام محلهم الأصلي أم لا، ومنه انتشروا في بقية أنحاء آسية المتقدمة، ثم إلى كل أنحاء المعمور. ومن أراد أن يتجاوز هذه الحدود التاريخية، سار في مجاهل على غير هدى، وتعرض للضلال والعثرة، ولعل تقدم العلوم يأتينا يوما بوسائل جديدة لتلطيف هذه الظلمات الكثيفة.
5
أما السلالة الهندوأوروبية التي تهمنا من وجوه متعددة، فإن رأي العلماء في أصلها كرأيهم في الساميين، فإنهم لا يتفقون في تعيين مهدهم الأول، وإن كانوا يجعلونه في آسية، ليس بعيدا من البلاد التي سبق القول فيها بأن الساميين إخوة الآريين سكنوها في طورهم التاريخي.
ولبيان ذلك نكتفي بما يأتي، وهو أن العلماء مهما تقدموا في الدروس التاريخية المتعلقة بنشأة الجنس البشري، زاد أيضا توجه أبصارهم إلى ذلك القسم من آسية المتقدمة الذي سورية تعد كمركز له، فيجعلون فيه مهد الإنسانية. والحق يقال: إنك إن تصفحت تاريخ الشعوب أربعة آلاف سنة قبل المسيح، وجدت البلاد الغربية متسكعة في ظلمة الهمجية، بينما نرى الجهات الواقعة في شرقي البحر المتوسط مزدهرة بنور التمدن - أعني وادي النيل والأصقاع الآسيوية المجاورة له من سواحل الشام، وضفاف الفرات ودجلة - فيكون منشأ التمدن جنوبي غربي آسية، ومنه انتشر جيلا بعد جيل إلى بقية البلاد حتى عم الأمم المتنورة.
6
وبعبارة أخرى يصح القول بأن سورية كانت في مركز دائرة كبيرة من البلاد التي ألفت العالم القديم؛ حيث كانت نشأة التمدن الأول في المسكونة، وإن عجزنا عن بيان وقوع الفردوس فيها فكفاها فخرا أنها كانت مهد تاريخ البشر.
ومن ثم نقول أيضا عن سورية إنها من الأقطار التي استوطنتها المستعمرات البشرية الأولى، إن لم تكن أول أرض وطئها الإنسان بقدمه، وما لا ريب فيه أن سورية قد تفردت مع بلاد بابل والقطر المصري بكونها حفظت أقدم ما وجد من الآثار المنبئة بوجود الإنسان، الناطقة بأعماله الأولى، وهو لعمري مجد أثيل أحرزته لها في ميدان لم يجارها فيه إلا القليل.
موقع سورية الجغرافي
Bog aan la aqoon