Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Noocyada
ولم يكن المؤلف لينسى وطنه بيت المقدس، فأفرد له وصفا مطولا يستشف من ورائه حب الكاتب لمسقط رأسه، وأورشليم كانت إذ ذاك كما هي اليوم مدينة معتبرة؛ ولذلك أحببنا أن ننقل قسما من كلامه، وليس شاهد أدل على فضل المقدسي من هذه المنقولات التي نثبتها في كلامنا مع حسن بيانها لأحوال الشام في عصره، قال بعد ذكره للرملة قصبة بلاد فلسطين (165-167): «بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها كإصطخر وقابن والفرما، لا شديدة البرد، وليس بها حر، وقلما يقع بها ثلج، وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها، فقلت: سجسج لا حر ولا برد شديد. قال: هذا صفة الجنة. بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمعتقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بن بهرام بالبصرة، فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أي بلد أجل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أطيب؟ قلت: بلدنا؟ قيل: فأيها أفضل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أحسن؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أكبر؟ قلت: بلدنا. فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصل، وقد ادعيت ما لا يقبل منك، وما مثلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي: «أجل»؛ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة، فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء فإنه لا سم لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا ترى أحسن من بنيانها، ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، أما كثرة الخيرات فقد جمع الله - تعالى - فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال، والأشياء المتضادة كالأترج واللوز، والرطب والجوز، والتين والموز، وأما الفضل فلأنها عرصة القيامة، ومنها المحشر وإليها المنشر، فتحوي الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها، فأي أرض أوسع منها؟! فاستحسنوا ذلك وأقروا به.»
ويلي فلسطين ذكر الكورة السادسة وهي كورة الشراة، دعيت بذلك باسم جبل الشراة الذي يمر بها، وقد سبق لنا في أحد أعداد المشرق الأخيرة (10: 577) ما اكتشفه في تلك الجهات الدكتور لويس موسيل، وها نحن نثبت هنا نتفا مما جاء في تأليف المقدسي عن بعض بلدانها، قال في وصف صغر التي أشرنا آنفا إلى موقعها جنوبي بحيرة لوط في موقع تنيف حرارته على لظى كل البلاد (ص178): «صغر أهل الكورتين يسمونها صقر. وكتب مقدسي
8
إلى أهله: من صقر السفلى إلى الفردوس الأعلى. وذلك أنه بلد قاتل الغرباء، رديء الماء، ومن أبطأ عليه ملك الموت فليرحل إليها، ولا أعرف في الإسلام لها نظيرا في هذا الباب، ولقد رأينا بلدانا وبية ولكن ليس كهذه، أهلها سودان غلاظ، وماؤها حميم وكأنها جحيم، إلا أنها البصرة الصغرى والمتجر المربح، وهي على البحيرة المقلوبة وبقية مدائن لوط، وإنما نجت لأن أهلها لم يكونوا يعملون الفاحشة، والجبال منها قريبة.»
ودونك ما كتب عن مآب (ص177): «مآب في الجبل كثيرة القرى واللوز والأعناب، قريبة من البادية، ومؤتة من قراها، وثم قبر جعفر الطيار.»
ومؤتة المذكورة هنا موقعها معروف، على بعد نحو أربع ساعات جنوبي الكرك، وهذا دليل على موقع مآب، لكنه غير كاف للحكم البات في ذلك كما سبق لنا القول في المشرق (10: 580). أما الكرك فإن المقدسي لم يرو اسمها ولا دفعة واحدة، بخلاف مآب التي يكرر اسمها ويعدها كمكان ذي شأن، وما أدرانا أن الكرك نفسها كانت تسمى مآب، كما يشعر بذلك اسمها اليوناني القديم، فإن البوزنطيين كانوا يسمونها كركموبا
χαράχμωβα .
وليست مآب وحدها التي باد أثرها في تلك الناحية التي كانت بعد عامرة في أيام المقدسي، ومما ذكره أذرح الشهيرة بمعسكرها الروماني، وفيها جرت حكومة الحكمين من أعظم حوادث الدولة الأموية.
9
وبقيت أذرح في مقامهما الصالح إلى القرن الثاني عشر، وهي اليوم خراب، وقد زرنا بقاياها في شهر آب من السنة 1905 عند رجوعنا من وادي موسى ومدينة بترا التي كان الخراب استولى عليها قبل عهد المؤلف بزمن طويل فلم يتعرض لذكرها. •••
Bog aan la aqoon