[المجلد الاول]
بسمِ الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الأَرضَ مِهادًا، والجبالَ أَوتادًا، وبَثَّ من ذلك نشوزًا ووهادًا، وصَحارَى وبلادًا، ثم فجَّر خِلال ذلك أَنهارًا، وأَسال أَوديةً وبحارًا، وهدَى عباده إِلى اتخاذ المساكن، وإِحكام الأَبنية والمواطن، فشيَّدوا البُنيان، وعمَّروا البُلْدان، ونحَتوا من الجبال بيوتًا، واستنبطوا آبارًا وقُلوتا، وجعل حرصهم على تَشييد ما شيَّدوا، وإحكام ما بَنَوا وعَمَّدُوا، عبرة للغافلين، وتبصرة للغابرين. فقال وهو أَصدق القائلين: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ.
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا في الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ٤٠: ٨٢. أَحمَده على ما أَعطى وأَنعم، وهدَى إِلى الرُّشد وأَلهمَ، وبيَّن من السَّداد وأَفهمَ، وصلى الله عليه خِيرته من أَنبيائه والمرسلين، وصفوته من أَصفيائه والصالحين، محمد المبعوث بالهدى والدين المبين، المنعوت بِ «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ٢١: ١٠٧ وعلى آله الكرام البررة، وأصحابه المنتجبين الخيرة، وسلّم تسليما.
أَما بعد، فهذا كتاب في أَسماءِ البُلْدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقُرَى، والمحالّ، والأَوطان، والبحار، والأَنهار، والغُدران، والأصنام، والأنداد، والأَوثان. لم أَقصِدْ بتأْليفه، وأَصمُدْ نفسي لتصنيفه، لهوًا ولا لعبا، ولا رَغبة حثَّتني اليه ولا رَهْبًا، ولا حنينا استفزَّني إِلى وَطن، ولا طربًا حَفَزَني إِلى ذي ودّ وَسَكَن. ولكن رأَيت التصدّي له واجِبًا، والانتدابَ له مع القدرة عليه فرضا لازبا، وفّقني عليه الكتاب العزيز الكريم، وهداني اليه النّبأُ العظيم، وهو قوله ﷿، حين أراد أن يعرّف عباده آياته ومثلاته، ويقيم الحجة عليهم في إِنزاله بهم أَلِيمَ نَقماته:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ» ٢٢: ٤٦. فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر، ونظر إلى القرون الخالية فلم ينزجر، وقال وهو أصدق القائلين: «قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٦: ١١ أَي انظروا إلى ديارهم كيف درست، وإلى آثارهم وأنوارهم كيف انطَمَسَت، عقوبةً لهم على اطّراح أَوامره، وارتكاب زواجره، إلى غير ذلك من الآيات المحكمة، والأَوامر والزواجر المبرَمة.
فالأَول توبيخ لسَبْق النهي عن المعصية شاهرًا، والثاني أَمر يقتضي الوجوب ظاهرا. فهذا من كتاب الله الذي لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفه، ولا يطرق عليه نقصٌ من إِنشائه وخَلقه، وقد
1 / 7