ولم تكد أم أمين ترى هذا البائس المسكين حتى رحمته ورقت له وآثرته ببعض الخير، ثم أهدت إليه ثوبا من ثياب ابنها، لم يكد صالح يراه حتى جن جنونه وخرج عن طوره من الفرح، ونسي الفلقة التي دارت على ساقيه والسوط الذي مزق قدميه، وأقسم ليسرعن إلى الماء ويغسلن نفسه فيه، وليضيعن آية الختم الجديدة، وليتعرضن لوشاية العريف وغضب سيدنا، فما ينبغي أن يلبس هذا الثوب الجميل دون أن يستحم ويزيل من جسمه آثار ذلك الثوب البالي القذر. قالت له أم أمين: لا بأس عليك، فسأطلب من سيدنا أن يعفيك من الفلقة والسوط غدا. وانصرف الصبي فرحا مرحا محبورا. وقال أمين لأمه: ألا تنبئينني الآن لماذا ضرب سيدنا صالحا ضربا مبرحا حتى أدمى رجليه، ولم يضربني أنا إلا عابثا؟ قالت: لأن صالحا أضاع الختم وخالف الأمر وانغمس في الماء، فكان ذنبه عظيما يستحق عقابا عظيما، فأما أنت فقد خرجت عن حدود اللياقة حين قلت أمام أترابك ما قلت في العريف، فكنت خليقا أن تلقى عقابا يسيرا. قال الصبي: وأنا مع ذلك لم أقل إلا الحق. قالت أمه وهي تضحك: فإن الحق لا يقال في جميع المواطن. قال الصبي: وكيف السبيل إلى أن أعرف المواطن التي يقال فيها الحق، والمواطن التي يقال فيها الباطل؟ قالت أمه وهي تضحك: ستعرف هذا كله إذا تقدمت بك السن، فأما الآن فانصرف إلى حديدك هذا الذي في زاويتك تلك والعب به، وتحدث إليه حتى تدعى للعشاء.
وذهب أمين إلى حديده فلعب به، وتحدث إليه، وأحدث من الضجيج والعجيج ما شاء الله أن يحدث، ولكنه انصرف عن حديده وزاويته، وسعى إلى أمه يسألها: ما بال صالح لا يحمل إلى العريف مثل ما يحمل إليه غيره من الطرف والهدايا؟ قالت أمه: لأن صالحا فقير معدم لا يجد ما يقوت به نفسه ، فضلا عن أن يجد ما يهدي إلى العريف. قال أمين: ولماذا كان صالح فقيرا معدما لا يجد ما يقوت به نفسه، وما يدفع به شر العريف؟ قالت أمه وقد أخذت تضيق بإلحاحه: لقد عدت إلى ثرثرتك، فامض لشأنك ولا تثقل علي. ولكن الصبي لم يمض لشأنه، وإنما مضى في الإثقال على أمه، فلم تتخلص منه إلا حين أظهرت له الغضب، وأنذرته إنذارا كاد يبكي له، ثم رحمته فوضعت في يده قطعة من النقد وهي تقول: اذهب فاشتر بهذا شيئا من الحلوى. قال الصبي مبتهجا: سأشتري بنصفه شيئا من الحلوى، وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد. ثم انصرف يعدو وقد ارتفع صوته بالغناء.
ولكن أمينا لم يدفع نصف القرش إلى صالح؛ لأن صالحا لم يذهب إلى الكتاب من غده، وقد وقع في نفس الصبي شيء من الغيظ، ثم من الحزن، حين التمس رفيقه فلم يجده، وحين انتظر مقدمه فلم يقبل حتى ارتفع الضحى، وحين استيقن أن صالحا لن يلم بالكتاب من يومه، ثم لم يلبث أن تسلى عن صالح وغيبته بمداعبة الرفاق والأتراب، ثم لم يكد يفرغ من غدائه بين سيدنا الضرير وعريفه البصير حتى خرج ليشهد صلاة الظهر فيما زعم، ولكنه اشترى بنصف القرش هذا السخف الذي يحبه الصبية، وعبث مع أترابه حول المسجد، وعاد معهم إلى الكتاب، وما يشك سيدنا وما يشك عريفه في أنه قد شهد الصلاة.
وانقطع صالح عن الكتاب يوما ويوما، ثم أقبل ذات صباح كئيبا محزونا لا يكاد قده يستقيم من الضعف، ونظر أمين فإذا هو في ثوبه ذلك البالي القذر، وقد تلقى أمين رفيقه مبتسما له، حفيا به، مستنبئا عن غيبته تلك التي طالت. وهم صالح أن يجيب، ولكن صوته احتبس في حلقه، وجرت على خديه دموع منسجمة غزار، فبهت أمين لأنه لم يعرف البكاء الصامت قط، ولم يقدر أن الصبية يمكن أن يبكوا دون أن يمسهم سوط سيدنا، أو دون أن يعنف بهم الآباء والأمهات ليؤدبوهم بالأيدي حينا ، وبالكلام أحيانا. ثم استبان لأمين من أمر رفيقه ما ملأ قلبه حزنا، ودفعه إلى كثير من الحيرة والشك والاضطراب، فقد كان الثوب الذي أهدته أمه لرفيقه مصدر شقاء عظيم، وضر ملح لهذا الرفيق البائس.
خرج صالح بثوبه الجديد مسرورا محبورا، تكاد ساقاه تسبقان الريح عدوا، ويكاد صوته المرتفع بالغناء يسكت الطير التي كانت ترقص على أغصان التوت، وتنشر في الجو ألحانها العذاب، وانغمس في القناة كأحسن ما تعلم أن ينغمس، وعام في القناة كأحسن ما تعود أن يعوم، فبذ الأتراب وتفوق على الرفاق، وخرج من القناة فرحا مرحا، مبتهجا مغتبطا، وقد امتلأت نفسه رضا، وامتلأ قلبه سعادة، وفاض من نفس الرضية وقلبه السعيدة على جسمه جمال غريب، لفت إليه أصحابه وأترابه، وقال بعضهم لبعض: ما رأينا صالحا كما نراه اليوم، حسن المنظر، رائع الطلعة، قد امتلأ قوة وحياة ونشاطا! ثم دخل في ثوبه الجديد، وكاد السرور أن يدفعه إلى شيء من الغرور، ولكن الحياء اضطره إلى بعض القصد وأمسكه في بعض الاعتدال، فرضي عن نفسه في دخيلة ضميره، وارتفعت إليه أبصار أصحابه بألوان من الغبطة والحسد، ومن العطف والبغض.
وعاد مع مغرب الشمس إلى داره يكاد يخطر في ثوبه الجديد، وقد طوى ثوبه البالي القذر وحمله بين ذراعيه وجنبه متأذيا متكرها لاحتماله، ولو استطاع لتركه في بعض الطريق، ولكنه كان أذكى من ذلك قلبا، وأصدق من ذلك فطنة، فاحتمل ثوبه ذلك البالي إلى امرأة أبيه لعلها تستطيع أن تصنع منه شيئا.
وما أشك في أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث، وسيسأل نفسه ولو استطاع لسألني أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرا، ويشقى جهرة بما يصب عليه من بغض هذه الضرة التي قامت مقام أمه في البيت؟
ولست أشك في أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شيء من القسوة والسخرية والغيظ، فيقول في نفسه: لو أن الكاتب سلك في قصته هذه الطرق الممهدة، والسبل المعبدة التي رسمها النقاد للقصة لعرف إلينا صالحا في أول حديثه، ولأنبأنا بموت أمه، وتزوج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التي لم نكن في حاجة إليها. ولكني أعيد على القارئ ما قلته آنفا من أني لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا، وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدمون بين يديها هذه المقدمات التي يبينون فيها الموطن والبيئة والأسرة، والزمان والمكان، إلى آخر هذا الكلام الكثير الفارغ الذي يلهج به النقاد، ولو أني بدأت هذا الحديث برسم واضح دقيق لشخصية صالح وأمين، ومن يتصل بصالح وأمين من الناس؛ لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق، ولقال بعضهم: تجاوز حديث الطوفان وصل إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد.
وبعد، فمن أنبأ القارئ بأن صالحا يتيم، وبأن أمه قد ماتت؟ الشيء الذي لا أشك فيه، ولا ينبغي أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما، وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حية أكثر مما ينبغي أن يحيا الناس، إن صح أن تكثر الحياة وتقل. وسواء رضي القارئ أم لم يرض، فقد كانت أم صالح حية من غير شك؛ لأني أنا أريد ذلك، وليس يعنيني ما يريد غيري من الناس، فأنا الذي اخترع صالحا من لا شيء، أو أخذ صالحا من عرض الطريق؛ لأن صالحا موجود، ولأنه غير موجود، موجود في حقيقة الأمر؛ لأننا نراه في كل ساعة وفي كل مكان، وغير موجود في حقيقة الأمر أيضا؛ لأنه يملأ المدن والقرى، ويسرف على نفسه وعلى الناس في الوجود، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما يقال، فأنا إذن وحدي - كما كان يقال أيضا - أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيري من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها ماتت، وإنما تركت الدار لأنها طلقت. وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد هذا الطلاق ما أشاء: أستطيع أن أدعها مطلقة تعمل خادما في بعض الدور ، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخرها لعمل من هذه الأعمال التي يعيش منها أمثالها من البائسات، فقد أسخرها لبيع الخضر، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلفها أن تصنع الخبز في بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلفها أن تغسل الثياب في هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله؛ لأني حر فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث، ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثي كما أسوقه إليه، ثم هو حر بعد ذلك في أن يقبله أو يرفضه، وفي أن يرضى عنه أو يسخط عليه.
والواقع من الأمر أني لا أكلف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التي ذكرتها، ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التي رسمتها؛ لأني على حريتي في أن أصنع بها ما أشاء، أوثر الأمانة في رواية التاريخ، وقد حدثني التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة، وبأن الحاج عليا أبا صالح لم يكن ظالما ولا جائرا حين طلقها بعد أن ولدت له صالحا بعام أو عامين؛ فقد كان هذا الرجل طيب القلب، سليم النفس، لا يحب شيئا كما يحب الدعة والهدوء. وكانت امرأته خديجة أم صالح منكرة الخلق، بغيضة العشرة، كثيرة الكلام، شديدة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، فاضطر هذا الرجل البائس إلى فراقها، واستبقى ابنه صالح في كنفه، وحاول أن يفرغ له ويقوم على تربيته فلم يستطع؛ لأن خطوب الحياة تكلف أمثاله أن يعملوا ليعيشوا. ولم يكن من الممكن أن يعمل الرجل لكسب القوت، وأن يفرغ لتربية ابنه، وهو بعد ذلك رجل من الناس لا يستطيع إلا أن يعيش كما يعيش الناس، فاضطر إذن أن يتخذ لنفسه امرأة تربي له صالحا، وتمنحه غيره من الولد، واتخذت خديجة لنفسها زوجا يعينها على الحياة، ويعوضها من صالح هذا الذي احتجزه أبوه؛ لأنه اشترى القاضي بأرطال من البن. وماذا تريد أن أصنع وقد كانت الحياة تجري على هذا النحو في ذلك العهد القديم؟!
Bog aan la aqoon