وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل،
إلى أولئك وهؤلاء جميعا،
أسوق هذا الحديث. •••
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون،
وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون،
يساق هذا الحديث.
لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من العهد الماضي أدق من هذين الإهدائين اللذين يقرؤهما كل من تناول هذا الكتاب؛ فقد كان المصريون في تلك الأعوام القريبة البعيدة فريقين، أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقا إلى العدل مصبحة وممسية، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار، والآخر يصور القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل، وكان فريق الكثرة ذاك لا يجد ما ينفق في رزق نفسه، وفي رزق من يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء وأعظمه نكرا بما يجد عياله من الحرمان؛ كانت عينه بصيرة إلى أبعد ما يبلغ البصر، وكانت يده قصيرة إلى أدنى ما يكون القصر، كان يرى الطيبات بين يديه فتتوق إليها نفسه، وتتوق إليها نفوس بنيه وبناته، فإذا أراد أن يمد إليها يده أبت أن تمتد كأنما أصابها شلل، أو كأنها شدت إلى سائر جسمه بأثقل الأغلال، فكان يكظم غيظه، ويصبر نفسه على مكروهها، ويصبر أهله على البأساء والضراء، وينتظر العدل الذي يبطئ عليه؛ فيغلو في الإبطاء.
وكان يرى الآفاق المختلفة تصطلح على جسمه ونفسه، وعلى أجسام عياله ونفوسهم، ويهم أن يصلح مما تفسده تلك الآفات، فيقصر به همه، ويقعد به عزمه، ويضطر إلى أن يسلم نفسه وأهله لهذه الآفات تعبث بهم كما تريد، قد وطن نفسه على الجهل لأن أباه لم يستطع تعليمه، وهم أن يخرج عياله من الجهل الذي اضطر هو إليه، فلم يجد إلى ذلك سبيلا، فرضي الجهل لبنيه كما رضيه لنفسه، وانتظر العدل الذي يتيح لبنيه من المعرفة ما لم يتح له في صباه، ولكن العدل يبطئ عليه وعلى بينه فيغلو في الإبطاء.
وكان يرى البؤس له خليطا بغيضا، يصحبه إذا سعى في الأرض، ويصحبه إذا راح إلى داره، ويسكن معه ومع أسرته في تلك الدار إن أتيحت له ولأسرته دار يأوون إليها؛ فيصبر نفسه على هذا الخليط البغيض، ويصبر أهله عليه، واثقا بأنه لن يستطيع منه فرارا؛ لأنه لن يستطيع أن يتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء، فينتظر العدل الذي سيخلصه ويخلص أهله من خليطه ذاك البغيض، ولكن العدل يبطئ عليه فيغلو في الإبطاء.
ولم يكن البؤس يرضى أن يصحب هذا الفريق إلا إذا تبعه أصحابه من الجوع والعري والعلل والذل والهوان، والكد الذي يضني ولا يفني، والهم الذي يسوء وينوء، وكان الناس من ذلك الفريق يبغضون أولئك الضيف أشد البغض، ويضيقون بهم أشد الضيق، ولكنهم لا يجدون إلى الخلاص من ضيفهم الثقلاء سبيلا إلا أن يأتي العدل فيلقي بينهم وبين ضيفهم ستارا، ولكن العدل كان بطيئا مسرفا في البطء، كأنه كان يمشي في القيد، لا يكاد يخطو خطوات قصارا حتى يجذبه من ورائه جاذب، فيرده إلى مكانه الذي استقر فيه بعيدا كل البعد عن الناس الذين يحبهم ويحبونه، ويشتاق إليهم ويشتاقون إليه. كذلك كان ذلك الفريق طامحا إلى العدل، يحرقه طموحه دون أن يبلغه شيئا، وما أكثر ما مضت الأجيال وليس لها من العدل حظ إلا انتظارها له، وتحرقها شوقا إليه.
Bog aan la aqoon