1
كان ذلك في ساعة من ساعات الضحى، حين كان النهار يجب أن يبطئ في سعيه ليحبس الصبية والشباب من أهل الكتاب، ويمكسهم في حياتهم تلك التي كانت تخضعهم لعنف سيدنا ومكر العريف، ويؤخر عنهم هذه اللحظة السعيدة التي يؤذن لهم فيها بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، والتي كانوا ينتظرونها متشوقين إليها، لا ليرضوا حاجاتهم إلى الطعام، بل ليرضوا حاجاتهم إلى الحرية واللعب. وكان الصبية والشباب من أهل الكتاب يستبطئون ارتفاع الضحى وزوال الشمس، ويخدعون أنفسهم عن هذا الانتظار الشاق البغيض، بنشاط غريب مفاجئ، ترتفع فيه الأصوات بالقراءة وتكثر فيه حركة الأيدي التي تمسح الألواح لتزيل منها ما حفظ أمس، وتكتب فيها ما سيحفظ بعد الغداء. وكان الكتاب في ذلك الوقت أشبه شيء بخلية النحل، كله حركة، وكله نشاط، وكله دوي يرتفع حتى يسمع من بعيد جدا، على ما فيه من تباين الأصوات واختلافها بين أصوات الصبية النحيلة الضئيلة العالية التي لم تثبت بعد، وأصوات الصبية التي أخذت تمتلئ لأن أصحابها قد تقدمت بهم السن شيئا، وأصوات الشباب التي كادت تشبه أصوات الرجال، وكادت تستوفي حظها من الامتلاء، وكانت هذه الأصوات المختلفة المنطلقة في وقت واحد، تحمل إلى الآذان شيئا حلوا رائقا، فيه كثير من الملاءمة والانسجام، يشبه ما تحمله إلى الأذن الأدوات الكبيرة للموسيقى حين يشتد اختلافها في طبيعة الجرس، وينشأ عن ائتلاف مختلفها جمال يسحر السمع، ويملأ النفس روعة وطربا.
في هذه الساعة من ساعات الضحى، وفي ساعة أخرى من ساعات النهار حين كان المؤذن يوشك أن يدعو إلى صلاة العصر، كانت حماسة الصبية والشباب من أهل الكتاب تبلغ أقصاها، ولم يكن من اليسير أن يظفر سيدنا أو العريف بردهم إلى السكوت دون أن يصفق تصفيقا قويا، ويخرج من حلقه صوتا كأنه الرعد يقرع الآذان ويفجأ النفوس، فيعقد الألسنة عن النطق، ويكف الأيدي عن الحركة، ويعقل التلاميذ في صمت أبله، وسكون أحمق، ووجوم غريب.
في ساعة من تلك الساعات، وقف على عتبة الكتاب بين شقي الباب رجل تجاوز الشباب ولكنه لم يمعن في الشيخوخة، وعليه مظهر الثروة وارتفاع المنزلة، يعرف ذلك من لباسه الأنيق، ووجهه الذي تشرق فيه الثقة وتظهر عليه الكبرياء. وكان الرجل مرتفع القامة، مهيب الطلعة، ظاهر النعمة، يدل منظره على أنه راض عن نفسه كل الرضا، مستقر في الحياة كل الاستقرار، لا يخاف شيئا ولا يشك في شيء، ولا يعرف التردد ولا الاضطراب، وأكبر الظن أنه كان ضابطا من ضباط الجيش وقتا ما، ثم تحول عن الحياة العسكرية إلى الحياة المدنية، فانتقل إلى هذه الحياة الجديدة محتفظا بعاداته وتقاليده العسكرية كلها أو أكثرها، وأكبر الظن أنه لم يكن مصري الأصل، وإنما كان تركيا تمصر هو أو تمصرت أسرته، فقد كان يحمل في وجهه وفي شكله كله شيئا لا أدري ما هو، ولكنه يبين أنه ليس من المصريين، ويباعد بينه وبين المصريين مباعدة ما، ويثير في نفوس المصريين إذا رأوه من قريب شيئا غريبا فيه إكبار له، وفيه استخفاف به.
وكان هذا الرجل حين وصل إلى الكتاب، قد أعطى كلتا يديه لصبيين يكتنفانه ويسعيان معه سعيا رفيقا، فأما أحدهما عن يمينه فقد كانت على وجهه سحابة رقيقة من حزن، وأما ثانيهما عن شماله فقد كان باسم الثغر مشرق الوجه يكاد يخرج من جسمه قوة ونشاطا، فلما بلغ باب الكتاب ومن حوله هذان الصبيان ألقى تحيته، فسمع أهل الكتاب صوتا لم يسمعوا مثله قط في قريتهم، صوتا ضخما عريضا ممتلئا، أغنى سيدنا وأغنى العريف عن التصفيق والزئير، فقد قرع آذان التلاميذ وفجأ نفوسهم، وعقلهم في هذا السكوت الأبله، وفي هذا السكون الغريب، ووثب بسيدنا كأنما دفعه دافع، فإذا هو قائم على دكته قد أعجل حتى عن أن يقوم كما تعود أن يفعل في مهل وأناة، وقد رد التحية على صاحبها في شيء من وجل، ثم دعاه إلى أن يتفضل بالجلوس، وتنحى له عن موضعه في صدر المكان، وشكر الزائر لهذا الشيخ احتفاءه به ودعاءه له إلى الجلوس، ولكنه أبى أن يدخل وأبى أن يجلس، وقال في صوته ذاك المهيب المخيف: «إني حديث عهد بهذه المدينة، لم أصل إليها إلا منذ يومين، وقد عرفت أن كتابك هو خير ما فيها من الكتاتيب، فأحببت أن أقود إليه ابني هذين، وأن أكل إليك تعليمهما؛ فأما أحدهما فهو هذا - وقدم الصبي الذي كان قد أعطاه يده اليمنى - فقد فقد بصره إلا قليلا، فهبه كل عنايتك وأحفظه القرآن، فإني قد وهبته للأزهر، وأما ثانيهما فعفريت ما أراه يصلح إلا للمدرسة، فأمسكه في الكتاب حتى لا ينسى من الكتابة والقراءة ما تعلم، وأحفظه شيئا من القرآن، وخذه بشدة إن أبى إلا أن يكون عفريتا في الكتاب كما هو عفريت في البيت.» ثم دفع من فمه ضحكا عريضا ما أظن إلا انه روع بعض القلوب في صدور أولئك الصبية الصغار، ثم تقدم خطوة وأخذ بيد سيدنا فوضعها على كتف أحد الصبيين وقال: «هذا هو الأزهري.» ثم رفع يد سيدنا عن كتف ذلك الصبي ووضعها على كتف الصبي الآخر وهو يقول متضاحكا: «وهذا هو العفريت.» ثم قال لسيدنا: «أما الأزهري فاسمه عثمان، وأما العفريت فاسمه محمود. أتريد أن أتركهما لك منذ الآن؟ أم ترى أن أعود بهما اليوم على أن يستأنفا سعيهما إلى الكتاب إذا كان الغد؟» وهم سيدنا أن يجيب، ولكن الرجل لم يمهله وإنما قال: «سأستصحبهما اليوم وسيسعيان إلى الكتاب منذ غد، ولا تطلقهما للغداء فسيحمل إليهما غداؤهما كل يوم، ولا تطلقهما إذا صليت العصر حتى يأتي من يصحبهما إلى الدار، فإنهما غريبان لا يعرفان طريق المدينة بعد، وليست الدار قريبة من الكتاب.» ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف، وأدار ظهره منصرفا لم ينتظر أن ترد عليه تحيته. وما أحسب إلا أنه قد سمع هذا الضحك الذي اندفع الكتاب كله فيه، والذي لم يستطع سيدنا ولا العريف أن يكفا عنه التلاميذ، إلا حين أذنا لهم بالانطلاق ليصيبوا غداءهم، على أن يذكروا أن من تأخر منهم عن موعده فلن تعفى رجلاه من هذا النصيب المعلوم من العذاب، الذي لم يكن يقل عن خمسة سياط، وربما بلغ العشرين سوطا.
وقد رضي سيدنا ورضي معه العريف عن يومهما، وعما ساق الله إليهما من الخير فيه، فقد كان هذا الرجل موظفا كبيرا طرأ على المدينة منذ أيام، ولم يكن شك في أنه ضابط تركي قديم من ضباط الجيش، يظهر ذلك في حديثه، وفي عربيته التي تبرأ من الرطانة والتكسر، ولكنها لا تمضي مستقيمة إلى غايتها، وإنما يثقل بها لسانه ويتعثر بها منطقه، بل زعم العريف أن زوجه تركية خالصة لا تتكلم العربية إلا في مشقة شاقة وجهد شديد، وهي إذا أتيح لها أن تتكل العربية التوى لسانها بها التواء شديدا، وهي تؤنث المذكر، وتذكر المؤنث، وتفعل ببعض الحروف العربية الأفاعيل. وزعم العريف أن لهذين الصبيين أختين قد بلغتا طور الشباب وظفرتا بحظ من جمال لا يتاح إلا للترك أو من يشبههم أو يقاربهم من الأوربيين. وقد سمع سيدنا لكل هذا الكلام غير حافل به ولا آبه له، وآية ذلك أنه لم يرد على العريف إلا بقوله: «ما أظنه يدفع أقل من عشرين قرشا في الشهر أجرا لتعليم ابنيه.»
وكان في الكتاب صبي لم ينطلق مع التلاميذ ليصيب غداءه؛ لأنه كان من الذين يحمل إليهم الغداء في الكتاب، وقد سمع حديث الأب إلى سيدنا، وسمع حديث سيدنا والعريف عن الأب وابنيه وعن الأسرة كلها، فوعي هذا كله في صدره وحفظه في نفسه، ولم يكد يبلغ داره بعد أن صليت العصر حتى أعاد إلى أمه ما سمع من حديث، وسألها عن هذه الأسرة، فقالت باسمة: «إنها أسرة المأمور الجديد، وستزورنا السيدة وابنتاها بعد حين، فاحذر أن تقع عين إحداهن عليك.»
2
ولم يرتفع الضحى من الغد حتى كان الصبي قد تعرف إلى زميليه في الكتاب، عرفه إليهما سيدنا؛ لأنه كان يحب أن يؤلف بين الأسر التي تستمتع بحظها من الامتياز، ولأن هذا الصبي كان حافظا للقرآن مجودا له، فلم يتردد سيدنا في أن يكلفه إقراء الصبي الأزهري، وقال له وقد أخذ بيده الصغيرة فوضعها على لحيته الغزيرة: «لقد وكلت إليك ذقني، فأحفظ هذا الصبي ما حفظت وأجد إحفاظه، ولا تفضحني عند أبيه الموظف الجديد الكبير، وقدر أني وكلت إليك عملا كنت خليقا أن أنهض به أنا، أو أن أكله إلى العريف.» وقد وجد الصبي في نفسه شيئا من الكبرياء، فقد أصبح معلما بعد أن كان متعلما، وأصبح مقرئا بعد أن كان قارئا، ووجد في نفسه شيئا من الفرح والابتهاج لاتصال الأسباب بينه وبين هذين الزميلين المترفين اللذين يلبسان اللباس الأوروبي، ويضعان على رأسيهما الطربوش، ولا يلبسان هذه الثياب الفضفاضة القذرة التي كان يلبسها التلاميذ من أهل المدينة، واللذين ينتميان إلى أسر تركية ولا ينحدران من هذه الأسر التي تأتلف من التجار والفلاحين. وقد أقبل الصبي على عمله، فطلب إلى تلميذه أن يتلو عليه ما حفظ من القرآن في القاهرة، ثم اتخذ هذا نفسه سببا للسؤال عن كتاتيب القاهرة كيف تكون، وعن سادة هذه الكتاتيب كيف يسيرون مع التلاميذ، وعن مذاهب هؤلاء السادة في تأديب تلاميذهم ووسائلهم إلى هذا التأديب، والأدوات التي يصطنعونها فيه. وكان الصبي يسمع أحاديث تلميذه كلفا بها متهالكا عليها، يكاد ينسى في سبيلها ما وكل إليه من إقراء هذا التلميذ، لولا أنه كان يذكر من حين إلى حين يده الصغيرة في اللحية الغزيرة، وصوت سيدنا الغليظ وقد تكلف الرقة والرفق، وهو يلفته إلى أنه يكلفه عملا خطيرا كان خليقا أن ينهض به هو أو أن يكله إلى العريف، فكان ذلك يرده إلى القصد ويحمله على أداء الواجب.
وكان النهار يمضي ساعة للقراءة وساعة للحديث، ثم ازدادت الأسباب بين الصبي وزميله متانة واتصالا، فكان الثلاثة يخرجون من الكتاب إذا صليت العصر، فيذهبون معا إلى بيت الصبي قليلا وإلى بيت الزميلين غالبا، وكان البيت أنيقا مترفا في نفس الصبي يملأ قلبه حين يدخله روعة وكبرا. كان قائما على القناة ليس بينه وبين الماء إلا هذه الطريق الضيقة التي يسعى فيها الناس ودوابهم بين المدينة والقرية، وقد انبسطت من وراء سوره المرتفع الذي تكسوه الأغصان الخضر والزهر النضر حديقة عميقة مترامية الأطراف، عن يمين وشمال، تقوم الدار من ورائها مطمئنة لا ترتفع في السماء إلا قليلا، ولكنها تمتد في الفضاء وتكثر فيها الحجرات، وكان الذي يفجأ الصبي من أمر هذه الدار ويملأ قلبه رضا وإعجابا، أنه كان إذا عبر إليها الحديقة العميقة ودخل الدهليز الذي ينبسط بين الحجرات، لم يمش على أرض من تراب، وإنما يمشي على أرض قد بسط فيها البلاط، وكثيرا ما راعه أنه كان يرى الخادم تغسل هذه الأرض غسلا وتنقيها تنقية، ولا ترش عليها الماء رشا ليستقر ترابها فلا يثور.
Bog aan la aqoon