وقد تجاوز المسجد في طريقه إلى النهر، وأقبل أمامه من الشرق ضوء الفجر ضئيلا يمتد طولا وينبسط عرضا، وأقبل وراءه من المسجد صوت المؤذن يمتد طولا وينبسط عرضا، وامتلأ الجو من حوله ضياء يوقظ الأشياء، وغناء يوقظ الأحياء ويدعو الناس إلى الصلاة، ولكن قاسما لم ير ضياء ولم يسمع غناء، قد أظلمت عيناه وسدت أذناه، ومضى أمامه كأنه السهم الكليل الفاتر تدفعه قوة كليلة فاترة، وجعل يمضي أمامه ويمضي مترفقا، حتى أحس أنه يخطو في فراغ، ثم أحس بردا يأخذه من جميع أقطاره، ثم لم يحس شيئا، ولم يحسه شيء، وإنما مضى إلى الغيب كما تمضي في كل لحظة أشياء كثيرة إلى الغيب.
وما من شك في أن الشمس قد أشرقت بعد ذلك بنور ربها، وفي أن المدينة امتلأت حياة ونشاطا، وفي أن الناس اضطربوا في أعمالهم بما يضطرب في قلوبهم من نزعات الخير والشر، وفي أن أمونة وابنتها قد انتظرتا أن يعود إليهما قاسم كما تعودتا أن تنتظرا كلما سعى إلى النهر من آخر الليل، ولكنهما أطالتا الانتظار، ولم تظفرا منه بشيء.
وقد يحب القارئ أن يعرف كيف عبث بهما الأمل، وكيف بطش بهما اليأس، وكيف لعبت بهما صروف الأيام، ولكن القارئ ليس في حاجة إلى أن أقص عليه هذه الخطوب، فأيسر شيء عليه أن ينظر إلى هذه الحياة الصاخبة من حوله، فسيرى فيها «أمونات وسكينات» كثيرات لا يحصين بالمئات ولا بالألوف، وإنما يحصين بمئات الألوف وقد يحصين بالملايين، تطلع الشمس عليهن كل يوم مشرقة بنور ربها، ولكنها لا تحمل إليهن رضا ولا غبطة ولا أملا في الرضا أو الغبطة، ويقبل الليل عليهن مظلما قاتم الظلمة يزدان بهذا القمر في أطواره المختلفة، ويزدان بنقط النور هذه التي تنتثر في السماء، ولكنه لا يحمل إليهن راحة ولا أملا في الراحة، وإنما يدفعهن إلى نوم ثقيل بغيض كريه يشقين فيه بأحلام بغيضة تصور ما يشقين به في النهار من حياة بغيضة، لا تحفل الشمس بهن حين تطلع، ولا يحفل الليل بهن حين يقبل. ومتى حفل الليل والنهار ببؤس البائسين ونعيم الناعمين! ولكن الغريب أن الأحياء من الناس الذين أتيحت لهم قلوب تشعر، وعقول تفكر، ونفوس تميز بين الخير والشر، ونعيم كان خليقا أن يلفتهم إلى جحيم البؤس، هؤلاء الناس يمضون حياتهم كما يمضي الليل والنهار إلى غايتهما، لا يحفلون بأمونة ولا بسكينة ولا بقاسم، شغلتهم أنفسهم عن كل شيء وعن كل إنسان.
الفصل الثالث
خديجة
لم تنزل من السماء كما تنزل الملائكة رحمة وروحا على الأرض، ولم تخرج من النهر كما كانت العذارى الحسان من بنات الماء يخرجن في الزمان القديم من الجداول والأنهار، ومن العيون والينابيع، ولم يحملها إلينا السحاب، ولا أرسلها إلينا نجم من النجوم، وإنما نشأت في القرية، وفي أسرة بائسة شقية من أسرها كما ينشأ غيرها من عشرات العذارى، بل من مئاتهن وألوفهن في المدن والقرى دائما، ولكنها امتازت من أترابها بوجه كأن الشمس ألقت رداءها عليه؛ نقي اللون لم يتخدد. ولم يكن أحد يعرف من أين جاءت بهذا الوجه السمح الطلق المشرق النقي، فقد كان وجه أبيها جهما غليظا، قد احتفرت فيه الأخاديد احتفارا، وفعل به البؤس والشقاء وشظف العيش الأفاعيل، وكان وجه أمها صورة رائعة للقبح، إن جاز أن تكون للقبح صورة رائعة، وكان ضيق الحياة وخشونة العيش، وهذه الضرورات المحرجة التي تدفع البائسين من العمل إلى ما لا يحبون، وترضيهم آخر الأمر عما يكرهون؛ كان هذا كله قد غشى وجهي هذين الأبوين بغشاء صفيق مؤلم من الكآبة والذلة والحزن والغفلة والغباء.
ولم تكن تمتاز بإشراق الوجه ونقائه فحسب، وإنما كان إشراق وجهها ونقاؤه مظهرا لصورة رائعة بارعة من الجمال والحسن، قد أسبغت على جسمها كله، فكان شيئا رائعا متقنا كأنما صنع في تمهل وتأنق وأناة، كأحسن ما يتمهل المثال البارع ويتأنق ويستأني بعمله، فيخرج تمثاله آية في الروعة وفتنة للعيون والقلوب جميعا.
وكان صوتها - إذا تكلمت - رخصا عذبا صافيا ممتلئا، لا تكاد الأذن تسمعه حتى يحضر في النفوس هذا الوقت القصير بين انطلاق الفجر في ظلمة الليل كأنه السهم، وإشراق الشمس على الأرض حتى تملأها جمالا ونورا.
كان صوتها يحضر في النفس هذا الوقت القصير الذي يكون بين انطلاق الفجر وإشراق الشمس، والذي يترقرق فيه نسيم رقيق عليل، ويسقط فيه الندى كأنه تحية حلوة ملؤها الحياة والنشاط قد أرسلتها السماء إلى الأرض، وتستيقظ فيه الطبيعة نشيطة متكاسلة مع ذلك؛ تتغنى الطير وتحف الأوراق وتهف الغصون، ويهمس الضوء الفاتر إلى الأرض أن أفيقي وتأهبي، فقد أوشك موكب الشمس أن يلم.
كان صوتها يحضر في النفس هذا كله إذا تكلمت، ولم تكن تتكلم إلا قليلا، وكان صوتها ذاك الرخص العذب الصافي يلائم وجهها المشرق النقي، وخلقها الرائع السوي، فكان شخصها أشبه شيء بآية من آيات الموسيقى التي لا تلذ السمع وحده، وإنما تلذ كل ما في الإنسان من ملكات الحس والشعور والتفكير. وكان الناس يتساءلون ولا يكفون عن التساؤل: من أين جاء هذان الأبوان اللذان آثرتهما الطبيعة بالدمامة والقبح، بهذه الآية التي استأثرت بأرقى الحسن وأنقاه؟ وكان فقيه القرية إذا ألح الناس في التساؤل أمامه، تلا عليهم هذه الآية من القرآن، منكرا عليهم تساؤلهم وإلحاحهم فيه:
Bog aan la aqoon