وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
ميزان المعدلة في شأن البسملة للسيوطي (رحمه الله تعالى ورضي عنه)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد اشتهر كلام الناس في شأن البسملة واحتجاجهم على أنها قرآن أو غير قرآن.
Bogga 19
وشنع القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره على الشافعي في إثباتها قرآنا، بأن القرآن لا يثبت بالظن، إنما يثبت بالتواتر، وشكك بعضهم على الفريقين معا - من أثبت ومن نفى -، وقال: القرآن لا يثبت بالظن.
وشرطه القطع في الجانبين. ولم أر أحدا ممن تكلم على هذه المسألة جنح إلى القول بالقطع والتواتر؛ بل كلهم يعرفون بأنها ظنية، حتى قال القاضي تاج الدين ابن السبكي في «رفع الحاجب»: «لا يرتاب في أن حكمنا أنها من القرآن دون حكمنا على آية الكرسي ونحوها».
Bogga 20
وقال في موضع آخر على وجه المعارضة لابن الحاجب: «نحن لا ندعي تواتر البسملة الآن، فإن نحن لم نثبتها، إنما المثبت إمامنا الشافعي، فلعلها تواترت عنده، ورب متواتر عند قوم دون آخرين وفي وقت دون آخر».
أقول: الذي أعتقده ولا أرتاب فيه: أن البسملة من باب القطع إثباتا ونفيا، لا من باب الظن. وإنها على إثباتها يحكم بكونها قرآنا كحكمنا على آية الكرسي ونحوها سواء من غير تفاوت.
وهذا الكلام وإن لم تألفه النفوس، فكونها قطعية الإثبات هو أحد الوجهين لأصحابنا، كما هو محكي في «شرح المهذب» وغيره.
وإن يستغرب ذلك إنما يستغرب الحكم بالقطع على جهتي الإثبات والنفي معا، فهو كالجمع بين النقيضين - ولا غرابة في ذلك -، فقد أشار إليه بعض المتأخرين من القراء، كما سأنقل عبارته.
Bogga 21
وتحرير القول في ذلك: أن القرآن نزل على سبعة أحرف، ونزل مرات متكررة كما بينته في كتاب «الإتقان». فنزل في بعضها بزيادة وفي بعضها بنقص:
كقراءة: {ملك} و(ملك).
و(تجري تحتها) و{من تحتها} في براءة.
و{فإن الله هو الغني الحميد} و(فإن الله الغني) في سورة الحديد.
فلا يشك ولا يرتاب في أن القرآن في إثبات (الألف) و(من) و(هو) متواتر، وأن ميزان الإثبات والحذف في ذلك سواء.
Bogga 22
وكذلك نقول في البسملة: أنها نزلت في بعض الأحرف ولم تنزل في بعضها، فإثباتها قطعي وحذفها قطعي، وكل متواتر، وكل في السبعة، فإن بعض القراء السبعة قرأوا بها، وبعضهم قرأوا بحذفها، وقراءات السبعة كلها متواترة. فمن قرأ بها فهي ثابتة في حرفه متواترة إليه، ومن قرأ بحذفها فحذفها في حرفه متواتر إليه.
وألطف من ذلك أن نافعا له روايتان: قرئ أحدهما عنه بها، والآخر بحذفها، فدل على أن الأمرين تواترا عنده، بأن قرأ بالحرفين معا بإسنادين، أو لأسانيد متعددة.
وبهذا التقرير ينجلي الإشكال عن الأمرين ويتضح كلا الطرفين، ولا يستغرب الإثبات ممن أثبت، ولا النفي ممن نفى.
Bogga 23
وقد أشار إلى شيء مما ذكرته أستاذ القراء الإمام شمس الدين ابن الجزري، فقال في كتابه «النشر» بعد أن حكى في البسملة خمسة أقوال: قلت: وهذه الأقوال ترجع إلى النفي والإثبات، والذي نعتقده أن كليهما صحيح وأن كل ذلك حق، فيكون الاختلاف فيها كاختلاف القراء. هذا لفظه.
Bogga 24
فصل
إذا تقرر ما ذكرته، فقد نتج لي منه بحث لا يسمعه شافعي فيقبله، ولا يصغي إليه بأذنه، وربما عد ذلك من الهذيان، وربما ارتقى إلى غير ذلك من العبارات، و«ليس الخبر كالعيان»، وأذكره ولا علي: إما عالم له ذوق وعنده تحقيق فيعترف بصحته، أو يجيب عنه بقدح قريحته. وإما جاهل فلا عبرة بالجاهلين، أو جامد قاصر فدعه ينعق مع الناعقين.
والذي يقتضيه النظر: أن البسملة لا تجب قراءتها في الصلاة، وأنه لو قرأ الفاتحة بدونها صحت صلاته، وذلك أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقراءة البسملة بعينها في الصلاة؛ وإنما الأمر بقراءة الفاتحة.
Bogga 25
وورد ما يدل على أن البسملة من الفاتحة، فأنتج هذا للأصحاب أنهم أوجبوا قراءة البسملة. وهذه النتيجة غير لازمة، لما قدمت تقريره أن البسملة نسبتها إلى الفاتحة كنسبة سائر القراءات المتنوعة في الحروف والكلمات.
وقد اتفق الأصحاب على أنه يجب على المصلي أن يقرأ الفاتحة على الحرف الأتم، بل الواجب قراءتها بقراءة أحد الأئمة السبعة.
فلو قرأها بحرف (ملك) و(عليهم) في الموضعين بلا صلة، أجزأت بالاتفاق.
فإن كان ناقصا ثلاثة أحرف عن قراءة من يقرأ (مالك) و(عليهم) في الموضعين بالصلة، وكذلك نقول من قرأ الفاتحة بقراءة نصف السبعة الذين يقرأونها بلا بسملة: أجزأه، ولا يجب عليه أن يقرأ بقراءة النصف الذين يزيدون فيها البسملة.
فإن فرق فارق بأن هذه آية وتلك ثلاثة أحرف!!
Bogga 26
قلنا: لا فرق فيما يخل بالصلاة بين الآية والحرف، فلو سقط من الفاتحة حرفا من المجمع عليه لم يجزه بالاتفاق، فلما أجزأه إسقاط حرف من المختلف فيه بالاتفاق؛ فكذلك إسقاط آية أو بعض آية مختلف فيها.
بل مسألة البسملة أولى بالإجزاء؛ لأنها مختلف في إثباتها، والجمهور على أنها ظنية لا قطعية، بخلاف الأحرف، فإذا أجزأ إسقاط حرف مقطوع بأنه قرآن متواتر أولى بالإجزاء.
ويرجح هذا الذي قلته من الدليل: أن الأحاديث مختلفة في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وعدم قراءته لها. وكلها صحيحة، بل أحاديث قراءته لها أصح وأكثر.
فالظاهر: أنه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين؛ لبيان الأكمل والجائز، فكان يقرأ في بعض الأوقات بالحرف الذي لم تنزل فيه، كما كان يفعل في سائر الحروف والقراءات.
Bogga 27
ذكر الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم قرأها في الصلاة
* أخرج النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم: عن نعيم المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ثم قرأ بأم القرآن .. ..
Bogga 28
فذكر الحديث وفي آخره: «فلما سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم».
هذا حديث صحيح لا علة له، وهو أصح ما ورد في الباب؛ بل لم يصح فيه حديث غيره، انتهى.
تمت بحمد الله تعالى: ميزان المعدلة في شأن البسملة
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
Bogga 29