وقد أشاع هذا التسهيل في حركة الأفراد والسلع - مع غيره من عوامل التغيير المجتمعي (صحي - تعليمي - ثقافي - مهني) قدرا من التوازن بين الريف والمدينة قضى على خصوصية الريف الرومانسية التي كرسها من قبل النقل الحديدي المتباعد الخطوط والمحطات. وقد ساعد هذا على الاستجابة لمتطلبات المدن من الأيدي العاملة الريفية مدربة أو غير ماهرة. ولكن بالرغم من أن الوظائف في المدن والصناعة أو في أعمال الخدمات لها سقف احتياج واستيعاب من الأيدي العاملة، فقد استمرت حركة الريفيين إلى المدينة. فتيار الهجرة متى بدأ لا يتوقف اتجاهه حتى لو صيغت دونه قوانين وتشريعات، وهو يبطئ أو يتوقف فقط إذا ظهرت مناطق أخرى جاذبة للحركة أو تحسن الأداء الاقتصادي في الريف - مثلا بإقامة تعاونيات زراعية متكاملة من اختيار المحصول إلى تسويقه بحيث يضمن للمارسين عوائد أعلى مما هي عليه الآن.
حرية الحركة للأفراد مكفولة ويجب أن تبقى كذلك. ولكن استمرار تيار الهجرة إلى المدن الكبرى قد أدى إلى أزمة النمو المتسارع للمدن المصرية، ليس فقط في إيجاد وظائف مناسبة بل أيضا إلى مشكلة إسكان هؤلاء المهاجرين، فضلا عن إسكان أولئك الذين فاقت بيوتهم أعمارها الافتراضية نتيجة خامة البناء غير المؤهل لاستخدامات المياه الجارية وبالوعات الصرف الصحي. وقد استجابت إدارات لمشروعات الإسكان الشعبي. وأيا كانت الدوافع في إقامة المساكن الشعبية فقد كانت من الناحية الموضوعية فخا نصبته الإدارة الحكومية والبلديات لنفسها. فهي أقل قدرة مالية وتنفيذية عن الوفاء باحتياجات سكان المدن، وأبطأ بكثير من سرعة الهجرة والاحتياج السكني الجديد، فضلا عن تحميل الدولة ميزانيات تشغيل وإدارة هي في غنى عنها لو كانت تركت المبادأة في الإسكان للأفراد والمقاولات الخاصة على أن تكون في إطار شروط بناء ملزمة.
لكن الأهم من ذلك هو أن سوق العمل المتاح قد توقف عن النمو المقابل لنمو السكان والهجرة الريفية. ولم يكن - لأسباب سياسية ودولية - بإمكان القطاع الخاص والعام خلق الوظيفة بالقدر العددي الملائم. هذا فضلا عن تحدد أشكال الخبرة المطلوبة للوظيفة الجديدة نتيجة للاستثمار الرأسمالي الكثيف في أعمال إنتاج وخدمات ذات طبيعة حديثة تستخدم الآلية والأوتوماتية أكثر من استخدام الأيدي العاملة. ومن الصعب على المجتمع أن يغير بنيته إلى مهارات العمل الحديث بنفس سرعة التغير في أساليب وإدارة وبرمجة وتنظيم وآلية الأعمال الجديدة. ومن ثم سقطت أعداد كبيرة من قوة العمل في هوة الفئات الدنيا غير المصنفة - على أحسن الفروض غير المدربة، وهي الخطوة الحاسمة التي تنتهي بالبطالة المقنعة كما هي ممارسة ومحسوسة في مصر والبلاد النامية بصفة أساسية.
بطبيعة شكل الدلتا المروحية الامتدادات بين مراكز عمرانية كبرى في أطرافها وداخلها تشكلت خطوط الحركة الحديدية والبرية في صورة شبكة تربط المراكز والنواحي في شتى الاتجاهات . بينما كان لامتداد الصعيد الشريطي أثره في بقاء المجال الحركي فيه خطى تتوازى فيه الطرق الحديدية والبرية والنهر دون تكوين شبكة متعددة الاتجاهات. وترتب على ذلك أن فرص الحركة في الصعيد كانت دائما ذات توجه خطي إلى الشمال إلى القاهرة والإسكندرية والقناة. ومن ثم أدى ذلك التباعد والعزلة النسبية لريف الصعيد عن مدنه، بل التباعد النسبي بين مدن الصعيد، وبخاصة كلما أوغلنا جنوبا.
وأخيرا فإن هناك فقدان آخر للتوازن السكاني والحضاري والاقتصادي بين المعمور واللامعمور المصري، وظلت أقاليم الصحاري مجالات يصعب العمل فيها، بل تصعب زياراتها؛ لوقوعها طويلا ضمن سيطرة مصلحة الحدود التي لم تكن تسمح بالحركة إلا لحاملي تراخيص مرور تصدرها كل مرة. وبالرغم من انتهاء هذا الخطر فما زالت أقاليم الصحراء بعيدة المنال في التحولات المرغوبة والمعلنة باستثناء السياحة والاصطياف والتعدين. وهناك بداية ضعيفة لدخول سوق الإنتاج في مناطق محدودة جدا كالمشروعات الزراعية وبخاصة مريوط وشمال سيناء. ولكن العامل الحاسم في استمرارية مساحات كبيرة لا معمورة هو ندرة المياه - وهو أمر لا حيلة لنا فيه. صحيح يمكن الحصول على الماء من النيل في هوامش الصحاري بأقدار محدودة، أو المياه الجوفية المحدودة أيضا في الصحاري، ولكن هذه وتلك تبقى مساحات صغيرة قدرتها على استيعاب الهجرة الريفية محدودة؛ لصغر مساحتها؛ ولأن الزراعة فيها يجب أن تتبع أساليب الري بالرش والتنقيط؛ لندرة المياه وتجنبا لهدرها بالتبخر، وبالتالي فهي زراعة غير تقليدية ولا تستطيع أن تتحمل نفس الكثافات السكانية التي نجدها في ريف مصر.
ملخص ما سبق أن تراكمات كثيرة قد حدثت مما أدى إلى فقدان توازن سكاني وعمالة بين المعمور التقليدي في الوادي والدلتا وبين الصحاري من ناحية أولى، وبين الريف والمدينة من ناحية ثانية. وقد دعت هذه الأوضاع المخططين إلى مشروعات عديدة محلية، أو قومية منها حلقات المدن التوابع حول القاهرة - وهي مشكلة المشاكل حاليا، أو أحياء سكنية جديدة في مدن كمنطقة القناة، أو مشروعات عمرانية في أقاليم واسعة كالصحراء الغربية أو سيناء، مع إعادة في شكل المحافظات وتعديل حدودها أو توسيعها أو تقسيمها؛ لتمكين الإشراف على المخططات الجديدة. ومع ذلك فإن الأمر في حاجة إلى أكثر من مثل هذه التعديلات لأسباب سنعاود شرحها فيما بعد. (9) تقسيم إداري جديد لمصر
أوضاع وخيارات مصرية للقرن القادم
بعد عامين فقط تواجه مصر مواقف وخيارات عند دخولها القرن ال 21 أهمها الآتي: (1)
استمرار الشعور بالحاجة إلى تطبيق إشراف مركزي لتخطيط وتنفيذ سياسات التنمية القومية. وهذه المركزية تناهض وتتنافس مع الحاجة إلى دفع الأقاليم المحلية إلى تحمل المسئولية والمساعدة على نشأة الروح الخلاقة بالتخطيط الاقتصادي والبيئي على مستوى الإقليم، وشرعية المبادأة في طرح مشروعات تنمية المجتمع بدأ من أشكال التعليم والتأهيل البشري والمهني والإرشاد، ومنتهيا بالرعاية والتكافل الاجتماعي لمن يحتاجونه. (2)
تفترض السلطات المركزية أن بقاءها يتطلب استمرارها في الهيمنة على مجريات الأمور واستمرار رقابتها عليها، وذلك على الرغم من اعترافها الصريح بالقوى الاقتصادية الاجتماعية الجديدة التي تشكل جماعات ضغط من أجل ثنائية أكبر تمكنها من تنفيذ أهدافها البنائية في مجالات الحياة الاقتصادية.
Bog aan la aqoon