منذ سبعة عقود كان ثلاثي متاعب مصر يلخصه شعار القضاء على «الفقر والجهل والمرض». وما زالت أجزاء كبيرة من هذا الثالوت قائمة حتى الآن وإن أخذ بعضها في التضخم كالفقر أو التحول والاستشراء بدخول أمراض جديدة، بينما نحو نصف المجتمع - عمليا - ما زال أميا. أما الثلاثي الجديد: فهو عدد السكان - أو كما يقول المغالون في الأمر: إنها القنبلة السكانية، ثم البطالة وإشكاليات الاقتصاد، وأخيرا سلوكيات المجتمع وأساليب التعامل الفردي والجماعي، والصلة ليست منعدمة بين الثلاثي القديم والحديث، بل في الواقع إن الثلاثي الجديد قد تولد جزئيا من الثلاثي القديم وتطور وتضخم على عامل الزمن بما أتى به من أشكال جديدة في تكنولوجيا الحياة وأنماط الإنتاج والاستهلاك، والتغير في شرائح المجتمع على ضوء تغير مدلول القيم.
وسوف نقتصر هنا على المسألة السكانية، بينما نفرد للعنصرين الآخرين من عناصر الثلاثي الحالي موضوعا خاصا في فصول أخرى من هذا الكتاب لتبين دلالاته وأثره على تكوين المجتمع المصري المعاصر. هذا مع العلم أن هذه العناصر متداخلة مترابطة مؤثرة ومتأثرة بعضها بالبعض الآخر بصورة يصعب فك اشتباكها كما أسلفنا.
تنبيهات محمد عوض محمد منذ 70 عاما
إحساسنا بالمشكلة السكانية بمعنى نمو عددي أكبر من نمو الناتج المحلي العام وبالتالي مؤشرات الفقر والمشكلات الاجتماعية، ترجع إلى الثلاثينيات من القرن العشرين حين أشار إليه أستاذنا الراحل الدكتور محمد عوض محمد، أحد رواد المعرفة الحديثة. فقد راعه نسبة النمو السكاني المرتفعة بين تعدادات وتقديرات 1882-1927، بحيث تضاعف السكان مرتين في تلك الفترة من 6,8 ملايين إلى 14,2 مليون نسمة. لهذا هو ينبه في كتابه الشهير «سكان هذا الكوكب» (الطبعة الأولى 1936) إلى ضرورة أن تتشكل في مصر هيئة رسمية أو غير رسمية تعنى بدراسة موضوع السكان كله؛ لأن مشكلة السكان في مصر «هي من أعقد المشكلات وأحقها بأن توجه إليها جميع الجهود» (المقدمة). فإذا كان ذلك التحذير الذي أطلقه محمد عوض منذ سبعين عاما كان يعبر عن حقيقة في ذلك الزمان، فنحن اليوم أولى بالتأكيد عليه وقد زدنا على سبعين مليونا!
سكان مصر في تعدادات 1947-1996 وتقدير 2003
سكان محافظات الحدود ق2003 = 158 ألفا البحر الأحمر، 295 سينا الشمالية، 63 سينا الجنوبية، مطروح 163، الوادي الجديد 255.
ويتابع محمد عوض الحديث عن ضرورة تحديد النسل كوسيلة ناجعة لمواجهة المشكلة، ويشرح كيف كانت هذه الدعوة مثار اعتراض كبير في أوروبا في الربع الأخير من القرن 19 ثم قل المعترضون لجدية الموضوع وعلمية نتائجه. ويقول: «ليس في الناس من ينادي بأن وسائل منع الحمل يجب أن تكون حديث المجالس، ولكن تجنب الكلام بتاتا في موضوع مرتبط أوثق الارتباط بصحة الأم وتربية الأطفال وهناء الأسرة أمر لا يمكن أن ينصح به منصف.» (ص187)، ويعرف محمد عوض أن الموضوع سيكون مثار اعتراض من قبل رجال الدين فيقول: «أما الدين الإسلامي فليس فيه، فيما يبدو لنا، ما يدل على تحريم تحديد النسل ... بل إن ما لدينا من الأدلة يشير صراحة إلى أن الدين يبيح الالتجاء إلى تلك الوسائل ...» ويستشهد في ذلك بكتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، وبخاصة الفصل الخامس منه. وبناء على استمرار مجهوداته نجح محمد عوض في الحصول عام 1937 على فتوى من الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية آنذاك مؤيدة للدعوة إلى تحديد النسل؛ لأن كثرة النسل الضعيف لا خير فيه. (2) جهود وبحوث ولكن المشكلة متفاقمة
ومنذ ذلك التاريخ المبكر فإن الديموجرافيين والجغرافيين المهتمين بالموضوع السكاني كتبوا منبهين إلى أن مشكلة المشاكل في مصر هي النمو السكاني المتسارع، مثل كتابات الدكاترة محمد صبحي عبد الحكيم، ومحمد السيد غلاب، وعبد الفتاح وهيبة وغيرهم كثير. ولا شك في أن كثرة الاقتصاديين والاجتماعيين قد اقتربوا كثيرا من المشكلة السكانية، وكان قرار استضافة الدولة للمؤتمر السكاني الدولي في القاهرة عام 1995 تعبيرا صادقا عن أهمية الموضوع وجديته وإدراك الدولة بخطورة موضوع السكان.
منذ كتابات الجغرافيين وبعض الاجتماعيين فإن الجهد العملي الذي أضيف إلى دراسة وفهم المشكلة السكانية كان إنشاء المركز الديموجرافي بتمويل من صندوق السكان بالأمم المتحدة الذي ازدهرت أعماله تحت قيادة أستاذنا الراحل الدكتور سليمان حزين ومن تلاه.
ويركز البرنامج الدراسي في هذا المركز الدولي على الجانب الديموجرافي من الموضوع السكاني (الشق البيولوجي؛ أي حركة الحياة من المولد إلى الوفاة)، مع القليل من المعالجات الاجتماعية كسبب لحركة السكان بين المولد والوفاة. وأيا كان الأمر فالحقيقة أن الجانبين الاجتماعي والبيولوجي معا يشكلان العوامل المؤثرة في الخصوبة والتكاثر والوفيات والأمراض بالارتباط بكل عناصر الحياة من المعتقدات الدينية إلى النمط الاجتماعي السائد، وأشكال النشاط الاقتصادي ومردودات كل ذلك على الإنجاب والتعليم والصحة والعمل.
Bog aan la aqoon