وأخيرا فإن هذا يكفينا مغارم اللجوء إلى مشروعات شديدة التكلفة في الصحراء هي مؤكدة العمر القصير - فالإنسان إلى الآن وباكر لا يستطيع قهر عناصر طبيعية كالمناخ، ولا يستحسن أن يتصادم معها فهو ليس لها ندا ...
الفصل الثالث
حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
(1) في مسألة السكان
المشكلة السكانية في مصر تمثل التحدي الأكبر للنمو، والتنمية الشاملة والمستدامة حسب إجماع الآراء من قديم. لقد راع المتخصصين في علوم المصريات من أجانب ومصريين الإنجازات الحضارية المصرية واستمرارية الحضارة على مدار آلاف السنين، أذهلتهم تلك الاستمرارية دون أن يحدث لها اندثار كما حدث لحضارة مجاورة في أرض العراق أو فينيقيا - بل وحتى في اليونان.
والأغلب أن تلك الاستمرارية المصرية قد حدثت نتيجة الاستقرار السياسي والسكاني النسبي دون أن تجتاحه جحافل الغزاة المدمرة مرارا وتكرارا كما حدث لغيرها من أراضي الشرق القديم. صحيح تعرضت مصر في بعض أوقات ضعفها لغزوات من الخارج، كما حدث عند غزوة الملوك الرعاة «الهكسوس»، وغزوة الفرس الطويلة، وغزوات أقصر عمرا كالأشورية والبابلية، وموجات من الهجرات البحرية من اليونان القدماء والقبائل الغربية الليبية. لكن هؤلاء جميعا إما طوردوا وطردهم المصريون من مصر كالهكسوس والأشوريين والبابليين، وإما تمصروا بعد فترة من الزمن مارسوا فيها عنصريتهم على سواد المصريين كبعض الهكسوس وكل أسرة البطالمة، وإما حكموا مصر على الطريقة المصرية إداريا كالفرس أو الليبيين أو الرومان أو العرب قبل أو بعد الإسلام أو العثمانيين. أما الطولونيون والفاطميون والمماليك فقد مدوا جذورهم في مصر وازدهروا فيها وأصبحوا جزءا من نسيج مصر الاجتماعي والعسكري والإداري معا قرونا طوال.
ومن ثم كانت هناك محاولات لمعرفة عدد سكان مصر في زمانها الطويل، وتراوحت التقديرات بين ثمانية ملايين ومليونين حسب فترات الازدهار والركود. وهذه الأعداد تمثل حجما غير مسبوق في تلك العصور القديمة حينما كان متوسط العمر المتوقع هو في حدود 40-45 سنة، وباختصار فإن عددا حرجا من الناس - ربما مليونين من الأنفس - يشكلون ركيزة البقاء واستمرار أشكال الحضارة والثقافة حتى في أحلك الظروف كفترة الضغط الأشوري البابلي أو فترات الاضطهاد الروماني.
ونتيجة للازدهار الاقتصادي في القرن التاسع عشر فإن عدد سكان مصر بدأ في الانتعاش برغم حروب محمد علي الكثيرة. التغير الاقتصادي باستخدام الأرض للزراعة الصيفية جنبا إلى جنب مع الزراعة الشتوية التقليدية أدت إلى انتعاش الريف، بإدخال محاصيل صناعية على رأسها القطن الذي يكنى عنه باسم «الذهب الأبيض»، والتحول إلى الصناعات الحديثة ساهم أيضا في الرخاء الاقتصادي الذي غمر مصر نحو سبعة عقود ثلاثة منها في نهاية القرن 19 نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية وازدهار سوق القطن المصري طويل التيلة وتثبيت أقدامه عالميا، والعقود الأخرى في بداية القرن 20 نتيجة نشأة صناعات الأقطان الحديثة وتجارتها.
ومع الازدهار والتحديث في مصر وزيادة العناية الصحية بدأ المصريون في التزايد عدديا بإيقاع سريع حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من تضخم عددي. لكن التوازن كان قد اختل بين مصادر الثروة وعدد السكان، ولم نعد نرى توافقا بين العنصرين سوى أفكار تنظيم النسل حتى يمكن إجراء ما يمكن من أنشطة اقتصادية تستوعب الناس وتنتقل بهم إلى حالة اقتصادية معقولة وإلى عصر العولمة الذي لا يستطيع شعب أن يدخله ويحافظ على كيانه دون أن يكون متقويا بمصادر حياتية تكفل له عيشا بالكرامة. وفيما يأتي محاولة لفهم مشكلة مصر الأولى: السكان. (1-1) ثلاثي المتاعب المصرية
المشكلة السكانية
Bog aan la aqoon