Masar iyo Shaam
مصر والشام في الغابر والحاضر
Noocyada
ولم تقتصر هذه الحركة على النصارى الشاميين، فإن المسلمين أيضا استفادوا مما جاءهم به الصليبيون من العلوم والحضارة فنشطت الثقافة الشامية، ولا شك عندنا في أن مصر قد استفادت من هذا النشاط الشامي، فإنها كانت قد انحدرت علميا من مكانتها في أواخر العصر الفاطمي لانصراف رجال الحل والعقد فيها عن العناية بالعلم وأهله إلى سفساف الأمور وحقائرها، وهكذا وفت بلاد الشام بعض ما لمصر في عنقها منذ القديم.
ولما دخلت مصر تحت النفوذ الأيوبي قضى صلاح الدين على المعاهد الفاطمية تماما، وفعل هو ورجاله أفعالا ما كان ينبغي أن تصدر عنهم، قال ابن أبي طي يذكر ما فعله رجال صلاح الدين بعد الاستيلاء على مصر: «ومن جملة ما باعوه خزانة الكتب، وكانت عجيبة من عجائب الدنيا، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة.» وقال السيوطي: «ووجد خزانة كتب ليس في الإسلام لها نظير تشتمل على ألفي ألف مجلد، منها بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، فأعطاها القاضي الفاضل.» وسواء أبيعت هذه المكتبة العظمى أم أخذها القاضي الفاضل وتصرف فيها فإنه انتثر عقدها وأصيبت مصر بها مصيبة عظمى لا تقل عن مصيبة الإسكندرية في مكتبتها.
ومما فعله صلاح الدين أيضا أنه قضى على جميع المؤسسات والآثار الفاطمية الشيعية، وأحل محلها المؤسسات الشافعية ونشر المذهب الشافعي، وقد استمر الأزهر مهملا نحوا من مائة سنة لا تقام فيه صلاة الجمعة، ولا تلقى فيه الدروس منذ سنة 567ه إلى سنة 665ه، وفي هذه السنة (665ه) سعى الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في إعادة بناء الجامع وإقامة الصلاة فيه، فجدد عمارته وأثثه وأنشأ فيه مقصورة ومنبرا جديدين، ورتب فيه دروسا لقراءة الفقه الشافعي. وقد عوض صلاح الدين المصريين عن أزهرهم ومكتبتهم بالمدارس التي أسسها في مصر على نمط مدارسه في الشام، فمما بناه فيها المدرسة الصلاحية بجوار الإمام الشافعي، وقد جعلها لتدريس المذهب الشافعي.
قال السيوطي: «هي أعظم مدارس الدنيا، ويقال لها تاج المدارس.» وقال ابن خلكان: «لما ملك صلاح الدين بن أيوب الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة العبيدية كان مذهبها مذهب الرافضة والشيعية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فبنى صلاح الدين بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة للإمام الشافعي، وبنى مدرسة مجاورة للمسجد الحسيني بالقاهرة، وجعل دار سعيد السعداء خادم الخلفاء المصريين خانقاه، وجعل دار عباس الوزير العبيدي مدرسة للحنفية وهي المعروفة الآن بالسيوفية، وبنى المدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار للشافعية وتعرف الآن بالشريفية، وبنى بمصر مدرسة أخرى للمالكية وهي المعروفة بالقمحية.» وبعد عصر صلاح الدين كثرت المدارس في مصر والشام، وقد كانت هذه المدارس جميعا تتنافس وتتسابق، وقد قوي الاتصال العلمي في عصر هذه الدولة لا بين الشام ومصر فحسب، بل بين العالم الإسلامي جميعه، فكنت ترى العالم أو المتعلم المصري في مدارس حلب أو دمشق أو القدس أو الحجاز أو بغداد، كما كنت ترى العالم أو الطالب الشامي في مدارس القاهرة أو الإسكندرية أو دمياط، فابن العديم الحلبي المؤرخ الشهير كان كثيرا ما يقصد مصر ويلقى فيها مكانا وأهلا، والوزير ابن القفطي المصري (646ه) كان إذا قصد حلب موضع إكبار أهلها وعلمائها ورجالها، والعلامة عبد العظيم بن أبي الإصبع المصري الأديب (654ه) كان رفيع القدر في الديار الشامية، والمؤرخ سبط ابن الجوزي (654ه) قدم دمشق من بغداد واستوطنها، ثم رحل إلى مصر، وله في معاهدها ومدارسها آثار حسان، وابن أبي أصيبعة الحكيم المصري (668ه) أقام في الشام وأكبره علماؤها ورجالاتها، وعماد الدين عبد الرحيم بن العجمي الحلبي (670ه) كان نائب القاضي في الفيوم ثم في دمشق، والمحدث المؤرخ الدمشقي بن القلانسي أسعد بن المظفر (672ه) كانت له حلقات حديث وتاريخ في دمشق ومصر، والإمام النووي يحيى بن شرف (676ه) كان من كبار الأئمة الشاميين الذين أفاد المصريون من علمهم وفضلهم ودينهم، وكان من أعظم الشاميين أثرا في تقوية الصلات العلمية بين البلدين الإمام تقي الدين بن تيمية (728ه)، فهو الذي جدد الإسلام بعد دثوره وأحيا التفكير الصحيح بين علماء مصر والشام، ودافع عن ذلك دفاع الأبطال بعد أن كانت الفوضى العلمية منتشرة في القطرين - كما قال محمد عبده - تحت حماية الجهلة من الساسة، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام قبل باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانا، فشردوا بالعقول عن مواطنها وتحكموا في التضليل والتفكير وغلوا في ذلك حتى قلدوا من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام.
والحق أن ابن تيمية هو الذي أيقظ العقول النائمة في الشام ومصر بل في العالم الإسلامي، وهو الذي ناقش علماء مصر والشام وناظرهم وأراهم الحق وكشف عن عيونهم أستار الجهل، وقد هاجم ابن تيمية المتصوفة الجهال كأصحاب الطريقة الأحمدية الذين كانوا قد ملئوا الشام ومصر وكانوا جواسيس التتار وعيونهم ينقلون إليهم أخبار البلاد وأحوالها، وقد ثار عليهم الشيخ فعقدت له المجالس في مصر والشام وناقشهم فأبان لهم ضلالاتهم وأنهم قوم دجالون مخالفون للشريعة، وقد انتصب بعض العلماء للدفاع عنهم في الشام فغضب الشيخ وهاجر إلى مصر لعله يجد فيها مخرجا من ضيقه وأنصارا على الحق، فلما وصل إليها عقد له مجلس في القلعة حضره العلماء والقضاة وأكابر رجال الدولة فأراد أن يتكلم على عادته ويناقشهم فلم يمكنوه، وقام الشيخ نصر المنبجي فهاجمه، وكذلك فعل المشايخ ابن مخلوف وابن عدنان، واتهموه في عقيدته وانتهى به المجلس أن نقل منه إلى السجن في الجب بالقلعة، وبعد عهد خرج منه فعكف على دروسه طائفة من عقلاء المصريين، ويظهر أن خصومه قد أحسوا خطأهم وأرادوا الاعتذار، ولكن الشيطان سول لهم أن يستمروا في ضلالهم لما رأوه من مكانة الشيخ في قلوب العامة والخاصة، فعزموا على الاحتيال لنفيه من الديار المصرية وسعوا لدى السلطان بذلك، فنفاه إلى الإسكندرية وأسكنوه البرج من دار السلطان، ولكن أبيح له التدريس فكان الناس يدخلون عليه زرافات زرافات ويشتغلون بالعلم والحكمة وسائر العلوم، وكان يحضر الجمعات ويعمل المواعيد في الجامع على عادته، ولما بلغ هذا الخبر أهل دمشق خافوا عليه الغائلة حتى قال مؤرخهم تلميذه ابن كثير يصف هذه الحادثة: وسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة له وقربا منه وانتفاعا به واشتغالا عليه، واتفق أنه وجد في الإسكندرية أن طائفة من جماعة ابن عربي وابن سبعين القائلين بوحدة الوجود قد انتشروا هناك، فحاربهم وهتك أستارهم وفضح عقيدتهم واستتاب كثيرا منهم، ثم لما زالت دولة الملك المظفر أبي شنكير بيبرس الذي كان مريدا للشيخ نصر المنبجي عدو ابن تيمية، وعاد الملك إلى السلطان محمد بن قلاوون، أطلق سراحه من البرج فقدم القاهرة وتلقاه السلطان في محفل عظيم مشى فيه معه القضاة المصريون والشاميون، ثم سكن الشيخ بالقرب من المشهد الحسيني وأخذ الناس يترددون عليه والقضاة منهم من يعتذر إليه ومنهم من يتنصل. ثم لما رجع إلى دمشق أقام مدة يفتي ويحارب البدع والضلالات، وفي سنة «726ه» جاء مرسوم من السلطان باعتقاله من جديد في قلعة دمشق لأنه أفتى في السفر إلى قبور الأنبياء فتوى لم ترق خصومه من علماء الشام ومصر، فسعوا في اعتقاله فجاء المرسوم واعتقل، وفي سنة «728ه» أخرج ما عنده من الكتب والأوراق والأقلام ومنع من المطالعة والكتابة، وحملت كتبه إلى خزانة المدرسة العادلية، وكانت نحوا من ستين مجلدا وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه لما أفتى فتواه في زيارة القبور وقام عليه الشيخ الإخنائي الدمشقي استجهله ابن تيمية واتهمه بقلة البضاعة في العلم، فطلع الإخنائي إلى السلطان بمصر وشكاه إليه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من الكتب والأوراق، وفي هذه السنة مات ابن تيمية بعد أن أحيا ما درس من العلم والتفكير.
وما مناظرات ابن تيمية وأحواله إلا صورة من صور كثيرة كانت تقع في العالم الإسلامي عامة وهذين القطرين خاصة، وأمثال ابن تيمية كثيرون في القرن الثامن والتاسع، نذكر منهم الإمام إبراهيم بن خلف العسالي الدمشقي السنهوري الذي قال عنه السلامي إنه دخل إلى بلاد المشرق مرارا، وإلى بغداد ونيسابور وأصبهان وشيراز وحلب والأندلس والمغرب، وكان ينتحل مذهب ابن حزم الظاهري، وقد دخل مصر وعذب فيها وضرب وأخرج منها.
ومنهم الشيخ الأبرقوهي أحمد بن إسحاق المصري المالكي (701ه)، تلقى العلم في شيراز وواسط وبغداد والموصل ودمشق والقدس والقاهرة، وانتهت إليه علوم الحديث في وقته، ورحل إليه الناس من أقاصي البلاد، وسكن مصر واستقر بها طويلا ثم رحل إلى مكة ليموت فيها.
ومنهم شمس الدين البروجردي إسحاق بن محمود (669ه)، تلقى العلم ببغداد ثم رحل إلى مصر وتعلم على ابن البناء المحدث والأمير أبي الفوارس مرهف بن أسامة بن منقذ، ثم استقر بمصر والإسكندرية يحدث الناس ويعلمهم، وتولى خانقاه سعيد السعداء إلى أن مات بمصر.
ومنهم ضياء الدين دانيال بن منكلي الكركي (696ه)، وأصله من كرك الشام وبها تعلم، ثم رحل إلى بغداد وحلب ودمشق وسافر إلى مصر والحجاز وحدث بهما، ورجع إلى البيت المقدس وتولى قضاء الشوبك.
ومنهم عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي (660ه)، سمع من ابن عساكر وغيره من علماء دمشق وصار رئيس فقهاء بلده وخطب في الجامع الأعظم بها، ثم خرج إلى مصر فتلقاه الملك الصالح وأنزله وولاه خطابة جامع مصر وقضاءها، واستفاد منه المصريون كثيرا فقد كان واسع العلم بالأصول والفروع والعربية وبلغ رتبة الاجتهاد.
Bog aan la aqoon