وهكذا استطاع فرعون أن يفتح ثغرة من صفوف الأعداء، ولكنهم كانوا جموعا زاخرة يزيدون عليه وعلى أتباعه آلاف المرات. وكانت بعض العربات المصريات قد اتجهت جهة الجنوب؛ لتأتي بنجدة من جنود الفرقتين الباقيتين، ولكن كان يلزم لوصولها مضي وقت غير قصير.
وكان مما يزيد الحالة حرجا أن ملك الحيثيين، على رأس جيش يبلغ الثمانية آلاف كان معسكرا على شاطئ النهر الآخر، ولو أنه أسرع بعبور النهر لقضى على رمسيس ومن معه. ولم يبق أمام فرعون إلا القتال، فقاتل بشدة هو وجنوده، واستطاع بمهارته أن يجعل بعض عربات الحيثيين بينه وبين النهر، وأمن بذلك شر نبال الجنود المعسكرة على الشاطئ الآخر. وبعد فوات زمن غير قصير، ظهرت طوالع الفرق المصرية، وفي الحال انضموا إلى إخوانهم، وأخذ الفرق بين الجيشين يقل نوعا ما عما قبل، وكانت جعبة المصريين قد خلت من السهام، فسلوا السيوف وأطلقوا الرماح، وهنا حمي وطيس القتال، وأخذ الأعداء في التقهقر صوب النهر، وقد وقف ملك الحيثيين على الشاطئ الثاني من النهر مندهشا لما رآه أمامه. وقد فات الوقت لعبوره النهر واشتراكه في القتال، أما الآن فلم يكن في الإمكان عبور النهر؛ لامتلاء الشاطئ الآخر بعربات الحيثيين وجنودهم، بما لم يدع مكانا لجنود جديدة.
ومما زاد في فرح المصريين وقوى ساعدهم، وصول الفرقة الأخيرة، وأسرع بقدومها الهلاك إلى جنود الأعداء، وأخذوا يتساقطون في النهر، وكانت مذبحة عظيمة.
وانتهت بهروب الأعداء، وقد رصد لهم رماة القوس المصريين من يرمونهم بسهامهم، فيقتلون منهم من يقتلون، ويجرحون من يجرحون. وقتل من الحيثيين شقيقا الملك ورئيس حراسه، وأعظم كتابه، وحامل درعه.
أما ملك الحيثيين، فقد سقط في النهر وهو يجتاز مخاضة فيه، وكاد يموت غرقا، لولا أن رمى أحد أتباعه بنفسه في الماء وأنقذ الملك من يد الهلاك المحقق، فترك ميدان القتال بعد أن ضاعت من يده فرصة عظيمة للقضاء على عدوه اللدود، وآب بالفشل والخذلان.
وبعد انتهاء المعركة دعا فرعون قواد الجند أمامه، وقد وقفوا متخاذلين تعلو وجوههم حمرة الخجل؛ لما بدر منهم من دلالات الجبن في بادئ المعركة، أما فرعون فقد خلع عن رقبته الملكية طوقا ذهبيا ووضعه حول رقبة تابعه الأمين مينا، ثم وبخ قواده عن تركهم له ليواجه الأعداء بمفرده وفرارهم جبنا وخوفا، ثم حدثهم عن مينا، وكيف أنه لم يتركه ساعة الخطر، وختم الحديث بقوله: «ولا أنسى جوادي عربتي، وسوف يتناولان طعامهما يوميا - أمامي- في السراي الملكية.» ولما كان الجيشان قد خسرا خسارة عظيمة وأخذ التعب منهما كل مأخذ، فقد تعذر عليهما مواصلة القتال، وقبلا عن رضاء خاطر الهدنة، وانسحب الحيثيون إلى الشمال، ورجع المصريون إلى وطنهم، ولم يربحوا شيئا رغما عما بذلوه من جهد وأبدوه من بسالة، ولكن فرحهم بالنجاة من الهلاك المحقق أنساهم ما خسروه. وكم كان مينا فخورا وهو يسوق عربة الملك داخل أسوار زارو.
وسار الجيش بين جموع الشعب التي أتت لاستقباله، ولنثر الورود على جنوده، وكانوا من جميع الطبقات؛ فيهم الكاهن والتاجر والنبيل.
ولم يكن يوجد بعد رمسيس الذي أنقذ جيشه ووطنه وشرفه من يستطيع أن يفتخر بعمله مثل مينا، الذي وقف بجانب سيده في أشد حالات الخطر.
الفصل السادس
حياة الطفل
Bog aan la aqoon