240

Taariikhda Masar xilligii Khediw Ismaaciil Basha

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Noocyada

وكان شاطئا بحيرة التمساح غاصين بالأمم والجماهير والقبائل القادمة من تلقاء نفسها إلى مشاهدة الحفلات والتفرج عليها، أو المرسلة هناك بأمر من (إسماعيل) ليزيد منظرها بهجة تلك الحفلات عينها، فإنه أراد أن يرى ضيوفه نماذج من الأمم الخاضعة لصولجانه، وصورة صغيرة من عاداتها، فأصدر أوامره إلى جميع مشايخ العربان، ومشايخ البلدان من الإسكندرية إلى أقاصي السودان، بإرسال وفود من قبائلهم وسكان نواحيهم إلى الإسماعيلية، في مظاهر حياتهم اليومية: فازدحمت ضفاف البحيرة بخيم العربان و«عشش» الفلاحين وأكواخ الأمم السودانية، التي كانت تأوي مئات الألوف من البشر، والأشخاص، المختلفي اللون، والشكل، والملبس، والنوم، بأولادهم ونسائهم؛ بعضهم على صهوات الخيول، وآخرون على أسنمة الهجن، وغيرهم على ظهور الحمير، يعدون في تلك الفلوات، وأحرمة الصوف تسابق الشعور المنفوشة، وشعور البشارين المجدولة؛ وعمائم العمد تسابق «طواقي» الصعايدة، ولبد الفلاحين؛ بينما دربكات النسوة، المختلفة الأجناس والأقاليم، وطبولهن أو مزامير بعض العبيد وربابهم تحيي في كل صوب المراقص والألعاب !

وكانت تلك الأقوام كلها، وهي محجوزة عن ضفاف الترعة بصف ممتد على طولها من الجنود المصرية، تنتظر بفارغ الصبر ظهور البواخر المقلة الإمبراطورة والملوك الذين معها؛ وهي لا تكاد تصدق أن انتظارها يحقق؛ وإذا بمراكب حربية مصرية ولجت بحيرة التمساح آتية من جهة السويس!

فاستغرب الأقوام ذلك، وأخذوا يتقولون عما عساه يعني؛ ولكنهم ما لبثوا، وهم يتهامسون، إلا وسمعوا دوي المدافع يتناول عنان السماء، ورأوا الشاطئين يلتهبان، بكليتهما، والبروق تتصاعد من جوانب المراكب الحربية المصرية، فتهافتوا، وإذا بالنسر «الإجل» يتقدم متبخترا مدلا، وعلى مقدمته الإمبراطورة كأنها، بالرغم من سني عمرها الثلاث والأربعين، إلهة الجمال والجلال؛ أو كأنها، وهي في وسط وصيفاتها، وعزف الموسيقى يحف بها، ويتماوج في الهواء (كليوبترا) العهد القديم صاعدة مياه نهر السدنس، لتقابل أنطونيس، ولكن لا كمتهمة تقصد تبرير نفسها، بل كملكة قادمة لتعلو بها كلمة أنطونيس الجديد، ويسجل بوجودها: (أولا) استقلال مصر المنشود؛ و(ثانيا) مصافحة روحي الشرق والغرب بعد طول التنافر والمعاداة.

فأدركوا أن قدوم تلك السفن الحربية المصرية إنما هو للسلام والتحية، فرفعوا، هم أيضا، أصواتهم مهللة؛ وحيوا ضيفة خديوهم العظيمة وجمهور من معها، لا سيما دي لسبس الواقف بجانبها، والذي كانت هي نفسها تلفت أنظار الجميع وتهاليلهم إليه، اعترافا منها بفضله.

وما رست باخرتها في فرضة الإسماعيلية الفسيحة إلا وذهب (إسماعيل) للسلام عليها - وكان يخته قد تلا يختها - فحياها تحية الإجلال؛ ثم ترامى على عتق دي لسبس، وعانقه طويلا، والبشر مرتسم على وجهه، والعواطف تميل بجسمه، وتلت السفن المقلة للإمبراطور، وولي عهد التاج الپروسياني، وباقي الأمراء، والعظماء، والسفراء، ورست كلها بجانب «الإجل».

فقصد (إسماعيل) الفرقاطة الإمبراطورية، فالمدرعة الپروسيانية، فباقي السفن، وقدم لكل من راكبيها عبارات الاحتفاء والتحية الواجبة، ثم نزل إلى البر وقصد قصرا بناه في آخر لحظة على ضفاف البحيرة خصيصا لاستقبال ضيوفه والاحتفاء بهم فيه.

وكان قصرا فخما، نشأ في وسط مظال من السندس الزاهر، وباقات من الأشجار المزدهية بالرياحين والأزهار، كأن إحدى ساحرات الحكايات الخرافية ضربت الأرض بعصاها فأخرجته يتهادى في بهائه.

فانتظرت أوچيني برهة، ريثما أيقنت أن مضيفها استراح قليلا، ونزلت لترد له زيارته، فامتطت، أمازونة جديدة، صهوة جواد مطهم، وانطلقت تعدو به نحو ذلك القصر، فاستقبلها (إسماعيل) فيه، كأنه يستقبل إلهة، وبذل لها من الإكرام والإجلال وصنوف الارتياح والهناء ما لا يزال، بدون شك، يتردد أمام عيني مخيلتها، في أيام شيخوختها هذه البائسة، كأنه منام رأته أو عاشته في ساعة مثلثة السعادة!

24

وبعد أن مكثت ساعة في زيارته، واستمرأت، بلذة، حلاوة تلك الأويقات السريعة المرور، عادت إلى الإسماعيلية على ظهر هجين، وعيون الأقوام شاخصة إليها، وقلوب فوارس العرب تشيعها، ومن يدريني - وقد جعلها معروفة للجميع إقامتها السابقة بمصر، ورحلتها على النيل إلى أقاصي الصعيد - من يدريني أن الهواجس لم تحدث، حينذاك، هاتيك القلوب بأن تلك الإمبراطورة الجميلة، الجليلة؛ الراكبة جوادا، طورا، وتارة هجينا؛ الأندلسية المولد والنشأة، قد تكون سليلة بيت عربي، رفيع العماد، أو فرع دوحة ملكية أظلتها سماء الحمراء الشعرية في غرناطة، المدينة العربية، البديعة الذكر؛ غرناطة، مسقط رأس تلك الإمبراطورة الجميلة، ومنبت صباها؟ ومن يدريني أنه لم يكن لهذه الهواجس نصيب في جعل مظاهر الإجلال البادية حول أوچيني من تلك الجماهير التي كان معظمها عربيا، حارة، عميقة، كأنها تريد أن تحيي مجدا زال، وفخارا درس؟

Bog aan la aqoon