Taariikhda Masar xilligii Khediw Ismaaciil Basha
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Noocyada
غير أن (إسماعيل) لم ترق في عينه تلك اللعبة، ولولا تداخل قنصل فرنسا، بتأثير ممثلة من ممثلات الجوقة كان مغرما بها، لخسف بذلك الأرمني السمج الأرض، أو نفاه على الأقل إلى فازوغلو، ذلك البلد الذي لم يكن أحد يعود منه، ولكن تداخل القنصل الفرنساوي عمل عمله، فجرد منسي بك من رتبته ونياشينه، فقط، وطرد من البلاد، وأنذر بالإعدام إذا تجاسر على العود إليها.
18
وإنما كان مثار غضب (إسماعيل) وتميزه من تلك اللعبة السمجة خوفه من أن تكون سببا في نشوء فكر الاعتداء عليه، حقيقة، في بعض العقول المريضة، أو بعض القلوب الناقمة، لما جبل عليه الإنسان من حب الاقتداء، لا سيما بما كان سرا وسوءا، فأمر بإغلاق دور التمثيل والملاعب، وأبطل ملاهي القصور، وقصفها، ولم يكن خوفه في غير محله، فإن الجند كان قد شرع يتذمر من قلة الطعام، ورداءته، وكثرة التعب وبهاظته ، فيما كان يحمل عليه من العمل في إقامة القصور الخديوية، وتحسين العاصمة وتنظيمها، وفي الشئون المدنية المحضة الأخرى، وإنما أراد (إسماعيل) أن يحمل الجند على ذلك العمل، وأن يكون طعامه بسيطا وقليلا، بالرغم من ذلك، ليعوده احتمال المشاق، وقناعة النفس؛ فيكون منه جيشا متصفا بصفات الجيش الذي انتصر به (ماريس) الروماني على جموع السمبر والتوتون، بعد أن شغله طويلا في أعمال شاقة كذلك العمل؛ وبصفات الجيش السبرطاني، الذي لم يكن يعطى له طعام، بالرغم من كثرة جهوده، سوى حساء محروق؛ أي: جيشا بطليا قويا، لا تتمكن مصر به من الاستقلال التام، فقط، بل من مد سلطانها إلى أبعد الأقطار الجنوبية، ورفع رايتها على خط الاستواء ذاته، ولكن روح ذلك الجند أبت أن تكون من طراز جيش ماريس، وجيش إسبرطة، فكثر فيه التململ والتضجر، من العساكر، ومن الضباط أنفسهم، وتحت نوافذ سراي عابدين عينها.
فاضطر (إسماعيل)، لمحق تلك الروح الشريرة في بدء نشأتها، أن يأمر بإلقاء القبض على عدد من الضباط المشار إليهم بالبنان في مظهر ذلك التمرد - وقد جعل بعضهم ذلك العدد ثمانية، وجعله آخرون أحد عشر - ومحاكمتهم أمام مجلس عسكري فحوكموا، وحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص، ونفذ فيهم ذلك الحكم، ثاني يوم صدوره، في قرية تجاور مصر. على أنه لم تمض أيام قلائل على ذلك التنفيذ إلا ووجد أربعة عساكر مسلحون ومتأبطون شرا يتجولون في بستان قصر الجزيرة، والسوء متلبس بجميع حركاتهم، وكان الخديو مقيما إذ ذاك في ذلك القصر، فقبض عليهم في الحال، وقتلوا رميا بالرصاص، وطرحت جثثهم في النيل، فخمدت روح الفتنة في الجيش، ولم تعد تبدي حراكا.
19
ومن حسن حظ البلاد أن هذه الحوادث المزعجة، وإقدام مجلس النواب - قبل انفضاضه في الخامس والعشرين من شهر أبريل عينه - على ربط عوائد وضرائب جديدة (منها عوائد على رءوس حيوانات النقل والفلاحة الزائد عمرها على ثلاث سنوات) مرا بدون أن تضطرب لهما حياة البلاد؛ مع أن نفاذ تلك الضريبة الغريبة، فيما لو أريد اجتناب الحيف والإجحاف، كان من شأنه إيجاد سجلات خاصة لقيد مواليد تلك الحيوانات: وهو أمر كان فيه ما فيه من السخرية والهزء في ذلك العهد!
وإنما قل الاهتمام بذلك جميعه لأن الأفكار كانت كلها مشغولة بسفر الخديو القريب لزيارة ملوك أوروبا وعواهلها، ودعوتهم إلى حضور حفلات افتتاح ترعة السويس؛ وهو حضور كانت التجارة المصرية تتوقع منه أكبر الخيرات وأجزلها؛ وكان المصريون يعلقون عليه آمالهم في بلوغ بلادهم الاستقلال المنشود!
ولكي تكون رحلة الأمير الرسمية لهذا الغرض مميزة عن كل ما سواها من نوعها، قر الرأي على أن يعين الأمير (محمد توفيق باشا) قائما مقام سمو أبيه الفخيم، مدة غيابه، تحت إرشاد شريف باشا، وزير الخارجية، ولكيلا توقظ هواجس في صدر تركيا، أشيع في بادئ الأمر أن السفر إلى الخارج إنما علته معاودة وجع الحنجرة الخديو، وإشارة طبيبه عليه بالذهاب إلى (إمس) و(ڨيشي)، هذه المرة.
ووجع الحنجرة هذا كان اعترى (إسماعيل) في بحر شتاء سنة 1868، ولم يشخصه الأطباء، في الأول، تشخيصا صحيحا، فأهمل الخديو شأنه، وتهاون في مداواته؛ فانقلب إلى وجع خطير، ومرض شغل الأفكار وأقلقها، فما وسع دولة الوالدة الجليلة، والحرم المصون إلا الإلحاح على المليك بإعادة طبيبه العادي الخاص إلى خدمته - وكان قد أقاله وأبعده عن القطر بسبب حادثة بلاطية لم يدرك كنهها، وتضاربت الألسنة في روايتها وبيان تفاصيلها - فما عاد إلى معالجته، إلا وبدأ التحسين في حالة المريض الجليل، واستمر مطردا، حتى أزال العلة تماما. على أنه لم يكن لينسب، في الحقيقة، إلى مهارة الطبيب؛ بل إلى فرح الخديو الجزيل بمولود جديد رزق به، في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1868، دعاه (أحمد فؤاد) قرت به عينه، وأعده الله لمستقبل باهر، ولكن الطبيب رأى، مع ذلك، وجوب سفر سموه إلى الخارج ليعالج بمياه الجهات الموصوفة، توصلا إلى قطع دابر ذلك المرض بالكلية، ومنع عودته في المستقبل، فرأى (إسماعيل) أن يسافر إلى بروصة في الأناضول: (أولا): لأنها بلد إسلامي.
و(ثانيا): لأن مياهها قلما يوجد لها مثيل في البلاد الأخرى.
Bog aan la aqoon