Taariikhda Masar xilligii Khediw Ismaaciil Basha
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Noocyada
ولما كان اللقب الممنوح له حديثا جديدا على المسامع، أقبل الناس يتساءلون: «خديو؟ ما هو الخديو؟» واشرأبت أعناق أفهامهم إلى الوقوف على معنى الكلمة، بالتعرف بحقيقة الأمير المطلقة عليه.
وكان (إسماعيل) قد قدم، وجيوبه ملأى بالنقود، وخزائن المصارف بباريس ولندن تحت أمره وتصرفه، ففتح يديه بسخاء وبذخ لم يعهدهما العالم الغربي في عاهل من العواهل الذين زاروا ذلك المعرض، فبات أحدوثة إعجاب الجميع، ولقبته الدوائر الاجتماعية، على اختلاف أنواعها، «أسد اليوم»؛ وانكسفت، أمام بهجة أصفره الرنان، المبذول بجود حاتمي، شمس جلالة السلطان عبد العزيز، على شدة سطوعها.
فوقع في خلد العامة أن «الخديو» إنما هو أحد ملوك رواية ألف ليلة وليلة، بعث إلى الحياة، ثانية، ليؤكد للملأ أن أقاصيص تلك الرواية إنما هي حقائق، لا أحاديث خرافة؛ وأن «خليفة الفراعنة على عرش القطرين» أكبر ملك حلت قدماه في أرض فرنسا، كما أنه أغنى عواهل الأرض قاطبة، وعلت منزلته ومنزلة بلاده في تقدير الكل واعتبارهم، علوا كبيرا.
ومن الأخبار التي تناقلتها الألسنة عنه، حكايته مع أحد كبار نبلاء البلاد الفرنساوية، التي رواها الكنت دي لاڨيزون في مذكراته غير المطبوعة؛ ومؤداها: أن ذلك النبيل دعاه إلى وليمة في قصره، بضواحي باريس، فأجاب الخديو دعوته؛ وإذا به يرى قصرا بلغ من الجمال والجلال، وفاخر الرياش، ما لم يكن أحد يتوقع وجود مثله، أبدا، في حوزة غير الملوك، فأعجب (إسماعيل) به أيما إعجاب؛ وبعد تناول طعام الغداء - وبينما المحادثة دائرة في قاعة التدخين - أبدى لمضيفه استحسانه العظيم لقصره، فشكره النبيل على تلطفه، وكان قد قيل (لإسماعيل): إن الرجل في ضيق مالي شديد، فأحب مساعدته بشكل لا ينجرح له إحساسه، فسأله عما إذا كان يريد بيع قصره - وكان الرجل، على شدة احتياجه إلى نقود، لا يرى في استطاعته التجرد من ملكية ذلك البناء الفخيم؛ ولكنه استنكر مقابلة لطف (إسماعيل) بخشونة الرفض، فعن له أن يبالغ بالثمن، ليحمله على العدول عن رغبته في المشترى - فأجاب: «إني قد أبيعه، يا مولاي، مقابل خمسة ملايين من الفرنكات!» ولم يكن يساوي أكثر من مليون ونصف مليون.
فالتقط (إسماعيل) الكلمة من فيه، وهي طائرة، وقال: «إني اشتريته منك، بهذا المبلغ!» وحرر له في الحال حوالة بثمنه على أحد بنكيريه بباريس، فلم ير الرجل بدا من قبول البيع.
غير أن (إسماعيل) التفت، حينذاك، إلى ابنة ذلك النبيل - وكانت هيفاء لا تتجاوز الخامسة عشر ربيعا - وقال بابتسام جميل، مخاطبا والدها: «على إني لا إخالك تمانع في أن تحرر عقد البيع للآنسة ابنتك هذه اللطيفة، تخليدا لذكر استحسان «خديو مصر» ظرفها وآدابها؛ ولكيلا يقال: إني زرتك لأجردك من ملكك».
15
فكان لهذه الهبة الجليلة، وكيفية منحها، رنة إعجاب في العاصمة الفرنساوية، جعلت (إسماعيل) موضع إشارات البنان والتفاتات الأعين، حيثما توجه، وأينما حل؛ وسهلت عليه جدا تحقيق الرغائب السامية الدائرة في فؤاده، ألا وهي القضاء على القيدين المقيدين استقلال بلاده، وأعني بهما: ما تبقى من ظل السيادة العثمانية عليها، والامتيازات الأجنبية.
ولا غرابة، فإن هذه الحادثة تذكرنا بما كان من غليوم الثاني، إمبراطور ألمانيا المخلوع، أثناء زيارته لسوريا سنة 1898 فإنه، بعد أن غمر، هو وزوجه، بهدايا (عبد الحميد) الثمينة؛ وكلف الدولة العلية نيفا ومليونين من الجنيهات؛ ونقل إلى عاصمته، من بعلبك، معظم نفائس معبد الشمس الشهير فيها، بتصريح من ذلك السلطان - وهي آثار لا تقدر بأموال ولا تثمن بكنوز - بعد أن اقتطع منه، في صميم بلاده، الأراضي الشاسعة، ليستعمرها الألمان؛ ونال امتياز إنشاء السكة الحديدية من أشقوداره، تجاه الأستانة، إلى بغداد، بالمزايا والضمانات المالية والعقارية العظيمة اللاحقة بها - فكان كأنه وضع يديه على رقبة الدولة البائسة، وملك قلبها - ولم يعط، عن ذلك جميعه، بدلا، سوى صداقته، وهدايا لحاشية السلطان ورجال ما بينه، بلغ ثمنها خمسة وثلاثين ألف فرنك، فقط - إذا كانت ذاكرتي لا تخونني - وإكليل برونز مذهب أهداه إلى ضريح (صلاح الدين) مرفقا بوعد صريح مقتضاه إرسال مثيله من الذهب الخالص ليقوم مقامه، وهو وعد لم يحقق مطلقا، حل أخيرا في دمشق، حيث أبهج العالم الإسلامي المغرور به، بإعلانه صداقته؛ أي: صداقة «الإمبراطور الألماني» للثلاثمائة مليون مسلم المنتشرين على سطح البسيطة، ووقوفه بجانبهم معضدا معززا - كأنما الثلاثمائة مليون مسلم، وهم لو اتحدوا قلبا وكلمة، لوزنوا في كفة الأقدار وزنا راجحا، في حاجة إلى تعضيد فرد، مهما كان مركزه رفيعا! - ثم زار بيت آل العظم الرفيع الحسب والنسب، وشرع يكثر من استحسان رياشه وأثاثه لما أنس من عميد ذلك البيت الكريم أنه كان يرجوه بإلحاح احترامي، أن يتفضل ويشرفه بأخذ كل ما كان يبدي به إعجابا، وما زالا على ذلك المنوال: هو يستحسن، والعظم يهب، حتى أحس العاهل نفسه، على كبر جشعه، أنه تعدى كل حدود اللياقة، وأنه أصبح يتحتم عليه، من باب عدم الإغراق في القحة، الوقوف في مضمار ذلك السلب، فما وجد ما يعبر به عن شعوره خيرا من قوله، بابتسام، إلى عميد ذلك البيت الرفيع العماد: «إني أتيت لأزورك، لا لأسرقك!» وهي في الحقيقة جملة استجدائية في قالب ذوق، كان من شأنها، بداهة ، توريط النبيل الدمشقي في تيار كرمه المندفع - كما كان الواقع - فإن العظم انحنى بوقار أمام جلالة زائره، وقال: «إننا يا مولاي، بأولادنا، ونسائنا، وأرواحنا، ومتاعنا، ملك أمير المؤمنين؛ وبما أنك صديقه، فنحن أيضا ملك جلالتك!» - ولست أدري أن إنسانا يحترم نفسه، ولو قليلا، فاه، في أيامنا هذه، بجملة بعيدة عن الروح العربية والإسلام الصحيح، بعد هذه الجملة عنهما! - إلا أنها أطربت نفس القيصر الألماني المتألهة، طربا بعيد الغور، فالتفت إلى حاشيته المرافقة له، وصفق، وقال: «هكذا يكون الولاء للمالك، وللعرش! فمتى أرى قلب شعبي مفعما بمثله؟» واستمر في سلب مضيفه من نفائس رياشه.
فأين عمل هذا الإمبراطور الغشوم البارد، من عمل ذلك الخديو الكريم، الباهر؟
Bog aan la aqoon