Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
وارتاح محمد علي للاتفاق الذي عقده مع البكوات في الصعيد، فكان أمله عظيما في أن البكوات سوف يوفون بعهودهم هذه المرة وسوف يحضرون إلى القاهرة فتنتهي بفضل ذلك مشاغله من ناحيتهم، وبعد يومين من وصوله كتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 4 ديسمبر 1809، «أن الباشا قد أطلعه بعد عودته على نتائج حملته في الصعيد، ويبدو له مما وقف عليه من الباشا نفسه أن القسم الأكبر من البكوات قد قبلوا الحضور للإقامة إما بالجيزة وإما بالقاهرة، وأنهم قد خضعوا لدفع الميري والإتاوات الأخرى الاستثنائية التي يريد الباشا أن يفرضها على أملاكهم بالصعيد، مما ينهض دليلا على أن الباشا قد استطاع أن يحقق - على الأقل - جزءا من أغراضه التي سعى إليها عندما أرسل جيشه ضدهم، فقد أحضر محمد علي معه محمد بك المنفوخ، وهو من أكبر بكوات بيت مراد نفوذا، ويقول هذا الصنجق: إن إبراهيم بك وعثمان بك حسن وزملاءهما سوف يحضرون جميعا إلى القاهرة بعد ثلاثة شهور، وهي المدة التي أمهلهم بها الباشا حتى ينظموا شئونهم في الصعيد.»
ولكن «دروفتي » في هذه المرة أيضا كالمرات السابقة استمر يشك كثيرا في إمكان نجاح هذا الاتفاق، فقال في نفس رسالته هذه: «ومن المتعذر على المرء التسليم بقيمة هذه الاتفاقات والاعتماد عليها، ولو أنه من المحقق أن الباشا لم ينجح في استمالة محمد بك المنفوخ إلا بعد أن بذل له الوعود السخية ومناه الأماني العريضة؛ ولذلك فالوقت وحده كفيل بإعطاء فكرة صحيحة على هذا الترتيب (أو الاتفاق أو التسوية) الذي لا يجب أن ينظر إليه المرء على أنه معاهدة سلام أو عقود صفح شامل - على نحو ما يريد الباشا أن يصفه به - يفغر ما سلف بين الفريقين.»
ولقد صح ما توقعه «دروفتي».
ذلك أن البكوات عندما قبلوا صلح أسيوط لم يكونوا خالصي النية في قبوله، بل أجبروا عليه إجبارا لاقتناعهم بأنهم عاجزون عن معارضة الباشا ومقاومة جيشه، فوافقوا على شروط الباشا بنفس ذلك التحفظ الذهني الذي ألمع إليه «دروفتي» في رسالة 9 أبريل السالفة الذكر، وعقدوا العزم على التنصل من التزاماتهم، وحملهم انشغال الباشا المستمر بمسألة الحرب الوهابية، وتدبير المال وإنجاز الاستعدادات اللازمة للحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز عاجلا أو آجلا، على الظن بأنه وقد قفل جيشه راجعا إلى القاهرة الآن، وتحمل الباشا نفقات جسيمة في إعداد التجريدة التي جاءتهم إلى الصعيد، لن يستطيع إرسال حملة جديدة عليهم، وأن بوسعهم في هذه الظروف المواتية إذا أن ينكثوا بعهودهم، لا سيما وأنهم ما كانوا يريدون بتاتا الحضور إلى القاهرة ووضع أنفسهم تحت رقابة الباشا وإشرافه.
فلم يحضر إلى القاهرة - بعد الفوج الأول الذي جاء مع محمد علي وقواده - إلا نفر قليل من المماليك، ولم يتحرك أحد من البكوات، بل ظلوا قابعين في أماكنهم، بينما شرع البكوات الذين جاءوا إلى القاهرة يتذمرون من شروط الصلح المجحفة - في نظرهم - ولو أنهم لم يجرءوا على إعلان تذمرهم وسخطهم، وتزايد تذمرهم وشعورهم بالسخط على الصلح الذي قبلوه مرغمين، حتى إنهم صاروا يتآمرون على حياة محمد علي، ولم يكن خافيا على الباشا حالهم بفضل الأرصاد والعيون التي بثها حولهم، ولكنه آثر التريث والاصطبار عليهم، لعل زملاءهم الذين لا يزالون بالصعيد ينفذون ما التزموا به ويحضرون إلى القاهرة، ويلقون جميعا من معاملة الباشا الطيبة ما يخمد أحقادهم، وينهي هذه المؤامرات.
وكان أثناء وجود الباشا بالسويس، التي سافر إليها في 25 ديسمبر 1809؛ ليكشف على قلاع القلزم أن نمى إليه أن البكوات المقيمين بالقاهرة والجيزة يكيدون له وينتوون القبض عليه واختطافه في طريق الصحراء عند عودته من السويس، فقطع زيارته فجأة وحمله هجين إلى القاهرة في سرعة كبيرة، ولا أحد معه غير خادم واحد، فبلغ القاهرة في ليلة 31 ديسمبر، وأفسد على المتآمرين بعودته المفاجئة والسريعة خطتهم، ولم يبح الباشا بالسر الذي عرفه، ولم يغير مسلكه مع البكوات بل ظل مبتسما، ثم تعرض لخطر مؤامراتهم مرة أخرى، فأطلقت عليه ذات يوم رصاصة أخطأته وقضت على أحد ضباطه، ولكنه آثر الصمت على هذا الحادث أيضا وأوصى بالسكوت وصار يحتاط لنفسه، وكان من ضروب الاحتياط أنه اهتم بشق طريق بين القلعة وجبل المقطم، اعتزم أن يقيم في نهايته حصنا صغيرا يستطيع منه عند الحاجة إبقاء المواصلات مفتوحة بينه وبين الأرض الممتدة في الصحراء خلفه، حتى يسهل عليه الانسحاب إلى السويس.
وكثرت المراسلات بينه وبين بكوات الصعيد، وأوفد إليهم ديوان أفندي وغيره يطلب منهم تنفيذ الاتفاق، والحضور إلى القاهرة، والبكوات يطلبون إمهالهم في الحضور فترة أخرى، واستمر الحال على ذلك طوال شهري يناير وفبراير من عام 1810، وفي 10 فبراير رجع ديوان أفندي من ناحية قبلي، وصحبته أحمد آغا شويكار، فأقاما بمصر أياما، ثم رجع «ديوان أفندي» بجواب إلى الأمراء القبالى، وحتى أواسط مارس، لم تسفر هذه المحاولات عن شيء، فأبلغ «دروفتي» حكومته في 12 مارس 1810 «أن البكوات لم ينزلوا بعد من الصعيد، بل طلبوا من الباشا مهلة جديدة بدعوى انشغالهم بالحصاد لوفرة المحصول وفرة كبيرة؛ ولأنهم لو تركوه وحضروا إلى القاهرة الآن لتلف»، الأمر الذي يدل في نظر «دروفتي» على أن المفاوضة الراهنة ليست أمينة وصادقة كسابقتها.
ولكن الباشا أجابهم إلى رغبتهم، فأعطاهم مهلة شهرا آخر، ثم عاد البكوات يطلبون مهلة أخرى، ولكن في هذه المرة كانت قد عظمت شكوك الباشا في أمرهم، وكان لذلك أسباب عدة، منها حادث الرسول الفرنسي «كادر» الذي أبلغ الوكلاء الإنجليز الباشا عنه أنه يحمل خطابات من الحكومة الفرنسية إلى البكوات، وقد ذكرنا كيف وقعت مشادة عنيفة في 19 أبريل 1810 بسبب ذلك بين محمد علي و«دروفتي»، أضف إلى هذا أن العملاء الإنجليز جددوا الآن مسعاهم بنشاط زائد مع شاهين بك الألفي.
وقد بسط «دروفتي» قصة هذه المساعي، وتآمر شاهين مع عملاء الإنجليز منذ وصوله إلى القاهرة مستأمنا، وذلك في رسالة له إلى حكومته في 12 مارس 1810، فكان مما قاله «دروفتي»: إنه بلغه من مصدر موثوق به، ومتصل بالباشا وشاهين الألفي، أن «بتروتشي» منذ أن حضر شاهين إلى القاهرة، صار يجد في المسعى لتستأنف العلاقات القديمة بين شاهين الألفي وبين الحكومة الإنجليزية وقد نجحت هذه المساعي لدى شاهين، فراح هذا في أواخر عام 1808 يطلب من الإنجليز إنفاذ جيش إلى مصر يفوق في عدده وعدته جيش الجنرال فريزر السابق، ويعد بالانضمام فورا إلى هذا الجيش بمجرد نزوله إلى الإسكندرية، جالبا معه قبائل العربان وسائر أعوانه، وإذا تعذر مجيء حملة بريطانية فهو يطلب ثمانية ملايين قرش تركية يستخدمها في إغراء جند الباشا على تركه والانحياز إليه، ثم في تحريض الأهلين على الثورة، حتى إذا نجح في ذلك، استولى على حكومة القاهرة، وأبقوا على مظاهر الولاء والخضوع للباب العالي، بينما تصبح الحكومة تابعة فعلا وحقيقة لإنجلترة وتحت إشرافها.
وانخدع شاهين بوعود «بتروتشي»، وكان تحت تأثيره أن كتب في 9 أغسطس 1809 رسالة إلى «كولنجوود» - أمير البحر الإنجليزي للقوات البريطانية في البحر الأبيض - وهي رسالة طويلة تدل على أن المستأمنين من البكوات، والذين كانوا في طليعة من اصطلحوا مع محمد علي، وقبلوا العيش في كنفه وتحت رعايته، وبالغ هذا في إكرامهم، كانوا يتآمرون على ملكه، ويعتمدون على مساعدة الأجنبي في تمكينهم من طرده من باشويته، وأن البكوات سواء منهم الذين تطلعوا لمؤازرة الإنجليز كشاهين والألفية، أو الذين صادقوا الفرنسيين ونشدوا مساعدتهم له، كانوا بعيدين كل البعد عن التفكير في إنشاء حكومة مصرية أو أن الاستقلال هو ما اعتزموا بلوغه وتأسيسه، بل إن كل ما دار في أذهانهم كان لا يعدو الاستئثار بالنفوذ المطلق في البلاد واسترجاع ذلك السلطان القديم الذي أتاح لهم في العهد الغابر الطغيان والاستبداد بالأهلين، واستنزاف موارد البلاد لإنفاقها على شئونهم ومتعهم الخاصة، الأمر الذي رسخ في أذهانهم أن لا سبيل إلى تحقيقه طالما بقي محمد علي في الولاية.
Bog aan la aqoon