Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
ولما كان محمد علي قد اختتم نضاله مع البكوات بالإيقاع بهم في هذه المجزرة، فقد أوحت هذه الفعلة لكثيرين أنه ما كان يسعى في كل علاقاته معهم إلا لتحقيق هذه الغاية، ينهض دليلا على ذلك - في رأيهم - أن الانفراد بالسلطة بإقصاء المشايخ وتشريد عمر مكرم خصوصا، لتأسيس حكم يقوم على الجبروت والطغيان، هو مبعث فتكه بالبكوات، في وقت لم يعد فيه لهؤلاء أي شأن بعد أن هزمهم هزيمة ساحقة ماحقة في المعارك التي نشبت أخيرا بينه وبينهم، ولم يفلت من يده حتى من استأمن منهم وعاش في كنفه وتحت حمايته، وقد رتب أصحاب هذا الرأي على ما أخذوا به، أن مذبحة القلعة كانت مؤامرة حبكت خيوطها من زمن طويل، وأن البطش بالبكوات كان غرضا يسعى إليه ولا يأنف من اللجوء إلى وسائل الغدر والخديعة لتحقيقه منذ أن ولي أمر مصر قبل ذلك بخمس سنوات.
ولا جدال في أن هذا اتهام جريء، قد يسوغه هول الفعلة التي وقعت، ووجه الجرأة فيه الزعم بأن الإجهاز على البكوات كان بيت القصيد من كل علاقات محمد علي معهم، والظن بأن مسعاه لتسوية صلاته بهم على أساس من الود والصفاء لم يكن إلا نفاقا وختلا ومخادعة، ولقد كفت هذه الجرأة وحدها؛ لأن تغدو واقعة المذبحة في حد ذاتها - وهي لا سبيل إلى نكران حدوثها - مثار جدل ونقاش، من حيث تعيين المسئول عنها ومرتكبها، وجلي أنه إذا صح انتفاء المسئولية عن محمد علي، وثبوت أن هناك من دبرها ونفذها غيره، ينفي عنه كذلك أنه بيت النية - ومن زمن طويل - على الفتك بالبكوات، أساس الاتهام كله، فزاد الخلط وتضاربت الآراء واختلفت في تعليلها؛ فالزعماء الألبانيون «هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه - وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في مظاهرها - بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811، وهم الذين ألزموا محمد علي بالموافقة، ولو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنظيم بالدقة التي تم بها»، وهو قول لا نصيب له من الصحة، وطبيب الباشا الخاص «مندريشي»
Mandrici
هو الذي أشار عليه بتدبير المذبحة للفتك بهم، وصاحب هذا الرأي «دروفتي»، أخذ به لبواعث سوف يأتي توضيحها في حينه، والباب العالي هو الذي طلب من محمد علي ذبحهم، فلم يسعه إلا أن يمتثل أمر مولاه، وسوف نرى كذلك - في موضعه - مدى انطباق هذا القول على الحقيقة، وهكذا.
ولا بد أن يستقر في الأذهان أن الباشا نفسه صاحب مذبحة القلعة، ومدبر هذه المكيدة، والمسئول عنها وحده، ولكن يجب التسليم كذلك، بأنه كان خالص النية، صادق الرغبة في مسعاه للصلح مع البكوات المماليك، وأن هؤلاء نكثوا عهودهم دائما، وأنهم تآمروا على سلامتهم وسلامة ملكه فيما بينهم ومع أعدائه، فحفروا قبورهم بأيديهم، وأن ضرورة الخروج للحرب الوهابية، الثمن الذي كان لا محيص من دفعه إذا شاء الظفر بالباشوية الوراثية، ألجأه إلى الفتك بهم، وأن التفكير في المذبحة لم ينبت في ذهنه إلا قبل شهر أو شهرين على الأكثر من تنفيذها، فكانت قصة محمد علي مع البكوات، قصة إقبال من ناحيته، وإدبار من ناحيتهم، حتى إذا أعيته الحيل في أمرهم، وصار نجاح أضخم مشروع في مطلع باشويته - وهو الحرب الوهابية - عقد عليه آمالا كبارا، مرتهنا بقدرته على التفرغ له ومباشرته، لم يعد هناك مجال لأي تردد أو إحجام من ناحيته عن ارتكاب الفعلة التي وإن أجازها برنامج سياسته، فلن تلقى سندا شرعيا أو أخلاقيا لتبريرها.
فثمة حقائق إذا لا سبيل إلى نكرانها، وهي؛ أولا: أن النضال ضد المماليك إنما يدخل في نظام ذلك البرنامج الذي ارتسمت معالمه بصورة قاطعة في ذهن محمد علي منذ عام 1807، والذي استهدف تقرير الباشوية الوراثية في أسرته في مصر منذ ذلك الوقت المبكر، والذي كانت دعامتاه، والمكملتان لبعضهما بعضا توطيد حكومته، على النحو الذي شهدناه، ثم بسط سلطانه الداخلي على كل أنحاء باشويته، الأمر الذي استتبع حتما القضاء على المماليك. وثانيا: أنه بالرغم من وضوح هذه الحقيقة لم يكن الغرض من الحرب التي خاض غمارها معهم إبادة المماليك وإفناءهم، بل لقد ظل محمد علي يرجو صادقا في أثناء هذا النضال المرير أن يستطيع استمالة المماليك إلى الرضاء بسلطانه، والعيش في هدوء وسلام في ظل ما يقطعهم من أملاك، وما يغدقه عليهم من نعم وأرزاق، ويجعلهم على قدم المساواة في وضعهم الجديد المنتظر مع كبار قواده ورؤساء جنده - يدخلهم في صفوف جيشه، فيعزز بفرسانهم قوات مشاته، ويبعث بهم - كجزء من جيشه - إلى أرض الحجاز لاسترجاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين. وثالثا: أنه طوال هذا النضال في مرحلته الأخيرة (1807-1811) ظل محمد علي أمينا على عهده مع كل مستأمن من البكوات، ولم ينقض اتفاقا أبرمه معهم، ولم يغرر بهم أو يخدعهم، بل كان البكوات - كما ألمعنا - هم الذين نكثوا بعهودهم معه دائما، وأرادوا خديعته والفتك به، وتقويض عروش سلطانه، وتحطيم تلك الباشوية التي كانت نواة الدولة التي أنشأها في النهاية. (1) مساعي الصلح مع البكوات
وتبدأ قصة العلاقات بين محمد علي والبكوات في مرحلتها الأخيرة هذه، من أيام «حملة فريزر»، ونجاح الباشا بفضل وساطة «مانجان» لدى البكوات في البرنبل وزاوية المصلوب في يونيو 1807، في الوصول إلى إقناع هؤلاء بالوقوف موقف الحياد في أثناء الحرب بينه وبين الإنجليز.
ولم يقطع الباشا مساعيه من أجل الصلح معهم بعد انتهاء الحرب مع الإنجليز ؛ لأنه لا يزال يخاف من أن يتحد البكوات ويزحفوا عليه من الصعيد، والجند في تمرد وعصيان، وخزانته خاوية من المال، والحكومة في القاهرة غير مستقرة، والأهلون يئنون من ثقل الضرائب والمغارم، والزراع في ضنك، والأرض مهملة حتى لقد أجدب تقريبا ثلث ما كان مزروعا منها عند خروج الفرنسيين من مصر (1801)، ولقد كان في عزم محمد علي - على ما أكد «دروفتي» في تقريره إلى حكومته بعد ذلك في 8 أبريل 1808 - أن يخرج على رأس جيشه لقتال المماليك، بعد إبرام الصلح مع الإنجليز - لولا عصيان الجند في 26 أكتوبر 1807، الذي جعله يعدل عن ذلك.
بيد أن «دروفتي» يذكر في تقريره كذلك، أن غرض محمد علي من خروجه لقتال المماليك كان لإملاء شروط الصلح عليهم في الأقاليم التي يوافق الباشا اليوم على إعطائها لهم؛ أي إن محمد علي لم يكن في عزمه إثارة حرب فناء وإبادة ضدهم، ورضي بأن يظلوا في الأقاليم الواسعة التي كانت بأيديهم فعلا في الصعيد، على شريطة الإذعان لحكومته ودفع الميري عنها، الشرط الذي اتخذه في هذه المرحلة وفي المراحل التالية أساسا لعقد أي صلح معهم.
ووسط الباشا في هذا المسعى «روشتي» منذ أواخر أكتوبر، وكان شاهين بك الألفي أول من استجاب للصلح، وقال الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن حوادث هذا الشهر: إن العروض التي عرضها عليه كانت سخية، شملت إقطاعه الفيوم التزاما وكشوفية وفي عدة قرى في بني سويف والجيزة نفسها، فقبل شاهين الخضوع للباشا، وأغرته هذه العروض بتناسي توصيات الألفي الكبير، فتبودلت الرسائل بينهما. وفي 5 نوفمبر حضر إلى القاهرة محمد كتخدا شاهين الألفي ليتباحث مع الباشا في شروط الصلح، وأسفرت المباحثة عن إعطاء شاهين إقليم الفيوم بتمامه التزاما وكشوفية وإطلاق التصرف له فيها، إلى جانب ثلاثين بلدة من إقليم البهنسا مع كشوفيتها، وعشرة بلاد من بلاد الجيزة من البلاد التي ينتقيها ويختارها وتعجبه مع كشوفية الجيزة، وأن يكتب له بذلك تقاسيط نافذة في سائر البر الغربي، وعشرة بلاد من إقليم البحيرة مع كشوفية البحيرة بتمامها إلى حد الإسكندرية، وذلك لقاء خضوع شاهين واعترافه بسلطان محمد علي، وغادر محمد كخيا (كتخدا الألفي) القاهرة في 13 نوفمبر، وتهيأ الباشا لاستقباله وشرع يعد قصر الجيزة لنزوله - وكان العسكر قد خربوه ضمن بيوت الجيزة الأخرى التي خربوها - وأمر بإخلاء الجيزة من الجند والكاشف، فعدى الجميع إلى البر الشرقي وتسلم (في 29 نوفمبر) علي كاشف الكبير الألفي القصر وما حوله وما به الجبخانة والمدافع وآلات الحرب وغيرها.
Bog aan la aqoon