321

Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Noocyada

وأما المتزعم لهذه المعارضة السافرة فكان عمر مكرم، وهو يختلف عن الجبرتي من حيث تنشئته وثقافته ونظرته للأمور وهدفه من الحياة، فلم يعرف عنه أن نشأ في مثل البيئة التي نشأ فيها الجبرتي، ومع أنه جاور بالأزهر، واقتنى مكتبة كبيرة، فلم يكن في عداد المشايخ، وعلى خلاف ما فعل الجبرتي، انصرف أكثر ما انصرف للانشغال بالدنيا، وجمع المال، والاجتهاد لبلوغ أماكن الصدارة عن طريق الانغماس في شئون السياسة، بالقدر الذي هيأته له الظروف، والذي استطاع هو بتدبيره وسعيه أن يهيئه لنفسه، وبينما كان الجبرتي يحدد موقفه من كل عهد من العهود التي مرت به مسترشدا بتلك المبادئ المعينة التي دارت حول ضرورة إقامة ميزان العدل من جهة، وربط ما يجري من أحداث بموجب الحكمة الأزلية من جهة أخرى، كان عمر مكرم نهازا للفرص يقيس سعيه في خدمة أي عهد من العهود التي مرت به بمقدار النفع الذي يجنيه منه، فهو صديق حميم للبكوات المماليك طالما بقيت السلطة في أيديهم، وهو لا يحجم عن الانفضاض من حولهم، إذا تراءى له أن بوسعه أن يفيد من أصحاب السلطان الجدد، وهو لا يثبت على كل حال في أوقات الملمات والشدة، إلا إذا تحتم عليه الثبات والصمود، وبينا يظل الجبرتي أمينا على رأيه حفيظا على مبدئه، لا يفارقه الاتزان حتى آخر أيامه، يركب الغرور رأس عمر مكرم، ويزداد اعتداده بنفسه لدرجة الطغيان على الحكمة والتدبير الحسن، وتعويض البقية الباقية مما استمتع به من نفوذ إلى الضياع. (5-1) نشأته ونشاطه

ولد عمر مكرم في أسيوط، في تاريخ مجهول، قد يكون في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، لم يعرف شيء عن والده أو أجداده إلا أنهم ينتسبون إلى البيت النبوي الكريم، ولم يكن بيتهم عريقا في انتسابه هذا، فمن المعروف أن سبط بني الوفاء من بيتي البكري والسادات هم الذين كانت لهم من أزمان بعيدة مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف. وفي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي جمع السيد محمد أبو هادي بن وفا بين مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف، وتولى بعد وفاته في سبتمبر 1762 الخلافة الوفائية ابنه أبو الأمداد السيد أحمد بن إسماعيل، ونزل عن نقابة الأشراف إلى السيد محمد أفندي البكري الصديقي الكبير، وقد تولى هذا المنصبين معا، وطمع في المشيخة السيد محمد السادات بسبب انقراض سلسلة أولاد الظهور بموت السيد محمد أبي هادي، والشيخ السادات من سبط بني الوفاء، ولكنه لم يوفق - كما شهدنا - وطمع في نقابة الأشراف - دون وجه حق - السيد عمر مكرم، اللهم إلا دعوى انتسابه البعيد للبيت النبوي الكريم.

وواتت الفرصة عمر مكرم لتحقيق مأربه، عندما فر البكوات مراد وإبراهيم إلى الصعيد وقت مجيء حملة القبطان حسن باشا (1786)، واتخذا مقامهما بأسيوط، فسعى معهما حتى صار مقربا منهما ، فوثقا به، وكان عمر مكرم هو الذي حمل كتبهما إلى المسئولين في القاهرة في منتصف عام 1791 ورجع بجواب هؤلاء إليهما - على نحو ما سبق ذكره - ونال حظوة كبيرة لديهما بسبب نجاحه في المهمة، وعمل على توثيق صلته بهما، حتى إذا توفي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب الأشراف بمصر، محمد أفندي البكري الصديقي الصغير في نوفمبر 1793، تدخل مراد وإبراهيم، فتقلد عمر مكرم نقابة الأشراف، بينما تولى خليل البكري سجادة الخلافة البكرية أو الوفائية، واضطر محمد السادات إلى كتمان حنقه وغيظه، وأشرف عمر مكرم على إدارة أوقاف وأملاك النقابة، وهيمن على إيراداتها، وظل من أقرب المقربين للبكوات، وأسدى لهؤلاء خدمة جليلة بأن صار يسعى جهده لإنهاء الأزمة التي حدثت بين البكوات والمشايخ على أثر اعتداء محمد بك الألفي الكبير على إحدى قرى بلبيس في يونيو 1795، والتي أسفر حلها عن كتابة تلك الحجة التي تعهد فيها البكوات بالتزام العدل وأعلنوا فيها توبتهم عن مظالمهم السابقة، ولقد تقدم كيف أن وعود مراد وإبراهيم كانت كاذبة، وأن ظلمهما شمل الأهلين والإفرنج (والفرنسيين خصوصا) على السواء، وكان في نظر الأشياخ السبب الذي جر على البلاد نكبة الغزو الفرنسي والاحتلال الأجنبي، حتى إن الشيخ محمد السادات وجد من ذلك سبيلا لتقريعهما وأتباعهما، وذلك عندما طلب البكوات المشايخ للتشاور معهم وقت وصول الخبر إلى القاهرة بطلوع الفرنسيين إلى الإسكندرية، فتكلم الشيخ بالتوبيخ وقال: كل هذا سوء مقالكم وظلمكم، وآخر أمرنا معكم، ملكتمونا للإفرنج. وشافه مراد بك: وخصوصا بأفعالك وتعديك أنت وأمرائك على متاجرهم وأخذ بضائعهم وإهانتهم.

وعند اقتراب الفرنسيين من القاهرة، بذل عمر مكرم ما وسعه من جهد وحيلة لتطمين العامة ولحملهم على قتال العدو ومؤازرة البكوات، وكان العامة قد أفزعهم ما شهدوه من انحلال عزائم البكوات والإسراع في التأهب للارتحال من القاهرة، فداخلهم الخوف الكبير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب لولا أن هددهم البكوات، وسعى أنصارهم لاستحثاث الناس على الجهاد، وكان عمر مكرم بين الساعين في ذلك، فصعد نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك، فكانت مظاهرة كبيرة لم تجد نفعا ولم تدفع ضرا، وانهزم البكوات في معركة الأهرام أو إنبابة المعروفة في 21 يوليو 1798، وفر مراد في طريقه إلى الصعيد، وفر إبراهيم متوجها إلى الشام، وخرج كثيرون من الأهلين يريدون الارتحال من القاهرة، وقر رأي المشايخ في اليوم التالي (22 يوليو) على الاتصال بالغزاة والاستفسار عن مقاصدهم، واطمأن عديدون لوعود الفرنسيين بتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فرجع الفارون ومعهم الأشياخ الذين كانوا قد صحبوهم في فرارهم - حتى المطرية - ومنهم الشيخ محمد السادات والشيخ عبد الله الشرقاوي، وأما عمر مكرم فإنه لم يطمئن ولم يرجع.

والواقع أن السيد النقيب كان قد صح عزمه على الارتحال من هذه البلاد مع البكوات الذين ارتحلوا عنها، فاتبع جماعة إبراهيم الهاربة نحو الشرق، واستقر به المقام في يافا فترة من الزمن، كانت كافية لأن يرى الفرنسيين وقد وطدوا أقدامهم في مصر، بل واستقام لهم الأمر فيها، حتى إنهم سيروا جيشا لغزو الشام وفتحها كذلك، وليتأكد لديه أن دولة البكوات قد زالت، فقد تشتتت جموع هؤلاء، وطاردهم الفرنسيون في الصعيد، بينما هم أخمدوا ثورة القاهرة (الأولى) في 21 أكتوبر 1798 في سهولة ويسر، ثم إنهم انتصروا على العثمانيين والبكوات الذين عجزوا عن وقف زحفهم على الشام، فاستولوا على العريش وغزة دون عناء.

واعتقد عمر مكرم - وقد تحصن العثمانيون في يافا - أنه سوف يستعصي على الفرنسيين وقائدهم بونابرت فتحها، ولكن سرعان ما دانت هذه للغزاة بعد قتال دام ثلاثة أيام فحسب، فسقطت في أيديهم في 7 مارس 1799، وكان عمر مكرم أحد أربعمائة تقريبا من المصريين اللاجئين بها، فأعادهم بونابرت إلى مصر، وكان عمر مكرم مع العائدين، وصل إلى دمياط بطريق البحر، مع جماعة ذكرهم الشيخ الجبرتي في «تاريخه» وتعوق بدمياط فترة من الزمن بسبب «الكرنتيلة»، ثم وصل إلى بولاق أخيرا في 7 يوليو 1799، فمكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق، حتى وصل إلى داره، وكان في أثناء ذلك قد رجع بونابرت نفسه من حملته الفاشلة في الشام، ودخل القاهرة في 14 يونيو، فبادر عمر مكرم ثاني يوم وصوله - أي في 8 يوليو - بمقابلة بونابرت بصحبة الشيخ محمد المهدي الذي استطاع أن يفوز برضاء الفرنسيين عنه.

وكان الفرنسيون قد نزعوا نقابة الأشراف من عمر مكرم، وقلدوها منذ أغسطس 1798 الشيخ خليلا البكري، وكان هذا قد تداخل فيهم، وعرفهم أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلده الفرنسيون إياها، واستولى على وقفها وإيرادها، وفضلا عن ذلك فقد صادر الفرنسيون أملاك عمر مكرم؛ ولذلك فقد صار كل ما اهتم به - وقد رجع الآن إلى مصر - أن يسترجع أملاكه المفقودة ولم يكن بوسعه أن يسترد النقابة؛ لأن خليلا البكري - كما سبقت الإشارة - كان قد نال حظوة كبيرة لدى الفرنسيين.

ووجد عمر مكرم في وساطة محمد المهدي - وهذا صاحب حظوة كذلك لدى الفرنسيين - خير ما يعينه على نيل مأربه، فكانت مقابلته بصحبة الشيخ لبونابرت، وليس من المستبعد أن يكون محمد المهدي قد سعى للتمهيد لهذه القابلة؛ كسبا لرضاء بونابرت الذي قامت سياسته الإسلامية الوطنية على استمالة المشايخ والعلماء والأعيان، وأما بونابرت - على حد قول الجبرتي - فقد «بش له ووعده بخير، ورد إليه بعض تعلقاته، وكان هذا كل ما ظفر به عمر مكرم، فاستقر بداره، وصارت الناس تغدو وتروح إليه على العادة.»

ثم توالت الأحداث مسرعة، ففشل العثمانيون في محاولتهم الإغارة على الفرنسيين لطردهم من البلاد وانهزموا في موقعة أبي قير البرية في 25 يوليو 1799، وارتحل بونابرت عن مصر في 22 أغسطس، وتولى الجنرال كليبر قيادة الحملة، ولم يكن هذا من أنصار البقاء في مصر، بل يريد إخلاء البلاد وعودة جيش الشرق بكل سرعة إلى فرنسا، وشرع يتفاوض في شروط الجلاء مع العثمانيين والإنجليز، تلك المفاوضة التي أسفرت عن عقد اتفاق العريش في 24 يناير 1800، ثم نقضه وانهزام العثمانيين في معركة هليوبوليس في 20 مارس من العام نفسه.

وأنعشت المفاوضة آمال السيد عمر مكرم، الذي صار يترقب عودة هذه البلاد إلى حظيرة الدولة، ورجوع الأوضاع بها إلى حالها السابقة، واسترداد البكوات لسلطانهم القديم، ونزول القصاص بالمتعاونين مع أعداء الدولة، واستطاعته أن يسترجع نقابة الأشراف وأوقافها وريعها، عدا ممتلكاته المصادرة، فراح يستعد لمقابلة العهد الجديد، ثم دخل بعض العثمانيين القاهرة عقب إبرام اتفاق العريش، ولكن خاب الأمل بسبب نقض هذا الاتفاق ودارت رحى الحرب بين كليبر وجيش يوسف ضيا والبكوات (وعلى رأس هؤلاء إبراهيم بك)، فما إن سمع القاهريون صوت المدافع حتى اشتد هياجهم، وقامت ثورة القاهرة الثانية التي بدأت يوم المعركة نفسه (20 مارس).

Bog aan la aqoon