Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
صلى الله عليه وسلم :
الفعال!»
ولقد توقع الشيخ أن تسود العدالة بعودة الحكم إلى العثمانيين، ولكن سرعان ما ضاع أمله عندما عمت الفوضى في السنوات الخمس التالية، وكثرت الفتن والانقلابات، واعتدى الجند على الأهلين، وهاج القاهريون، والفلاحون بالأرياف، لما نزل بهم من جورهم، وصار أكثر الناس - كما قال - يتمنون أحكام الفرنساوية.
وأرهقت الشعب السلف الجبرية والإتاوات، وتوالت الفرد والمظالم، وتوقف حال الناس، ورضوا عن أحكام الفرنسيس، مما سبق ذكره وتوضيحه، وذكر رأي الشيخ في ذلك كله في سياق هذه الدراسة.
ثم إنه لم تلبث أن لاحت بارقة أمل، عندما شهد أحد رؤساء الأرنئود محمد علي يتودد إلى المشايخ والمتصدرين أمثال عمر مكرم وأحمد المحروقي، ويتقرب منهم، ويجوس الشوارع متحدثا مع العامة والرعية ومطمئنا لهم، ومشاركا لهم في التذمر والشكوى من عسف عثمان البرديسي وسائر البكوات أيام حكومتهم المعروفة، ويمني الجميع بقرب انتهاء عهد الظلم والجور، حتى استطاع تأليب الأشياخ والرعية على هؤلاء البكوات الظلمة، ثم راح يفعل نفس الشيء أثناء أزمته مع أحمد خورشيد، حتى تمكن بمعاونة المشايخ والرعية من إزاحة هذا الأخير من الولاية، والوصول بنفسه إلى الباشوية، فتوقع الجبرتي بداية عهد جديد على يد هذا المبشر الجديد.
ويستدل من التفاصيل التي ذكرها الجبرتي عن دور المشايخ خلال هذه الأحداث، وبالقدر الذي أراده لهم أصحاب الحكم أو المتطلعون إليه في هذه الفترة، أن الشيخ لم يكن من بين هؤلاء المتصدرين، أو إذا كان فإنه لم يشر إلى ذلك بقليل أو كثير، وسواء اشترك أم لم يشترك فقد ظل دائب الصلة بالأشياخ، ويعنى بتتبع نشاطهم ونشاط الحكام الباشوات العثمانيين، ونشاط البكوات المماليك، منازعي الدولة في السلطة والنفوذ، ولم يصرفه اشتغاله بشئونه الخاصة أو قراءة الدروس، أو انكبابه على تسجيل الحوادث أو الاهتمام باستكمال بعض الكتب التي أراد تأليفها في الفقه الحنفي والحساب والفلك وغير ذلك، لم يصرفه هذا عن التردد على محمد الألفي الكبير وغيره من البكوات، كالأمير ذي الفقار البكري، وحضور مجالس أحمد خورشيد باشا، وزيارة عمر مكرم وأحمد المحروقي وغيرهما من المتصدرين من المشايخ والأعيان في وقته.
ولكن تسلم محمد علي لزمام الأمور لم ينه عهد المظالم والسلف والإتاوات، ولم يتحقق به - في نظر الشيخ - ميزان العدل، ولم يلق الأهلون ومتزعموهم من الأشياخ والأعيان جزاء حسنا على سعيهم في تقليده الولاية، وانقلب الشيخ أيما انقلاب على هذه الحكومة الظالمة، والتي خالفت فيما اتبعته من طرائق لسد حاجتها الملحة إلى المال كل ما كان يدين به الشيخ من مبادئ عن سياسة الحكم والدولة، فلم ير في كل ما يحدث إلا ضياعا للعدالة وانتفاء لها، وتمكينا لأسافل القوم من الاستعلاء على أكابرهم، ومثابرة على استنضاح الأموال، وتجويعا للأهلين وتشريدا للفلاحين، واستبدادا بالرأي واستهانة بالعلماء واستخفافا برأي ذوي الفضل، واعتدادا بالعصبية في توطيد السلطة على أساس الجور بالناس والعسف بهم، وسلب أقواتهم وأرزاقهم، وتجريدهم من الأرض وما يملكون للإغداق بنعمه وآلائه على أهله وعشيرته وصنائعه ورؤساء أجناده، حتى صار كل هؤلاء أصحاب الشأن والسيادة والثراء الطائل، بينا يفتك المرض والجوع بأهل البلاد.
ولقد عظمت حفيظة الشيخ على الباشا لدرجة أنه تمنى زوال ملكه، فلم يكن من بين الأشياخ الذين وقعوا على العرائض التي طالبوا فيها ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، بدعوى أنه أجرى العدل، وأسعد الرعية، فوصف الشيخ ما نمقوه ووضعوا أختامهم عليه، أو زوروا خاتم من لم يفعل وختموا به أنه كلام عنه «يسئلون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.»
وهذه الكراهية نفسها لحكم محمد علي، هي أحد بواعث حملته الشديدة على أشياخ عصره، «مشايخ الوقت»، الذين مكنوا للباشا بتكالبهم على الدنيا، وانقساماتهم وحزازتهم ومنافستهم، إغفال أمرهم، والازدراء بهم وبما قد يجرءون على إسدائه من نصح إليه، وهذه الكراهية كذلك كانت مبعث استيائه وتكدره من البكوات المماليك، والحملة عليهم هم كذلك بسبب فرقتهم، وعدم اجتماع كلمتهم وتخاذلهم، ومنافساتهم وكراهيتهم لبعضهم بعضا، فعجزوا عن اهتبال الفرصة السانحة أثناء أزمة النقل إلى سالونيك لاسترداد الحكم وطرد محمد علي على رأس جنده الأرنئود من هذه البلاد، وهم الغرباء عنها، والذين لا تربطهم صلة بها، على خلاف البكوات الذين اعتبرهم الجبرتي - كما أسلفنا - مصريين، ولقد اشتد سخطه على عثمان البرديسي خصوصا، أقوى خصوم الألفي ومنافسيه على السلطة، وأكثرهم عداء له، فعده وإخوانه المسترشدين برأيه الضعيف، مسئولين عن تفويت الفرصة، واستمرار محمد علي في باشويته.
واعتبر الجبرتي من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي أن يحم القضاء بالألفي قبيل وصول حملة «فريزر»، ولكنه وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ على أن تجري تصاريف القدر والحكمة الأزلية بهذه الصورة، لم يسعه تشفيا لمكنون حقده على الباشا إلا أن يسجل قول الشاعر:
Bog aan la aqoon