209

Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Noocyada

فكان بعد أن تحقق لديه أن البكوات لن يغادروا أماكنهم في الصعيد أن قوي عزم الباشا على السفر لناحية الإسكندرية، وأمر بإحضار اللوازم والخيام، وما يحتاج إليه الحال من روايا الماء والقرب وباقي الأدوات، وفي 7 أغسطس ركب الباشا إلى بولاق وعدى إلى ناحية بر إمبابة، ونصبوا وطاقه هناك ، وخرجت طوائف العسكر إلى ناحية بولاق وساحل البحر، وطفقوا يأخذون ما يجدونه من البغال والحمير والجمال، ثم طلبوا أيضا في اليوم التالي خيول الطواحين لجر المدافع والعربات، وانتقوا منها أصلحها، واستمرت تعدية الجند إلى إمبابة أياما، وقد بلغ جيشه ثلاثة آلاف من المشاة وألفا من الفرسان، ولكنه قبل أن يبدأ زحفه على دمنهور في طريقه لقتال الإنجليز بالإسكندرية، لم يلبث أن وصل إلى إمبابة مساء يوم 10 أغسطس الميجر «ريفارولا»

Rivarola

موفدا من قبل الجنرال «فريزر» للمفاوضة من أجل عقد الصلح مع محمد علي والجلاء عن الإسكندرية. (2) مفاوضات الصلح

المرحلة الاستطلاعية أو جس النبض

فقد تضافرت عوامل عدة على إنهاء الاحتلال البريطاني للإسكندرية دون حاجة لاستئناف العمليات العسكرية بين حملة «فريزر» وجيش محمد علي، وتتلخص هذه أولا في أن الإنجليز بسبب تطور الموقف السياسي والعسكري الأوروبي صاروا يريدون سحب قواتهم من الإسكندرية للانتفاع بها في ميادين أخرى، وثانيا في أن الباشا نفسه كان يؤثر الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز لجلائهم عن الإسكندرية سلما على الاشتباك معهم في معارك أخرى دامية، قد يكون النصر فيها حليفه، وقد تكون حربا سجالا يطول أمدها، ويتجدد بسببها ظهور تلك الصعوبات التي جعلته يرجئ زحفه على الإسكندرية حتى هذا الوقت، والتي فوتت عليه الاستفادة من الهزيمة السابقة التي لحقت بالإنجليز في واقعة الحماد، وذلك عدا ما قد يستجد من صعوبات أخرى قد تطوح جميعها بباشويته.

وليس من شك في أن تقرير الإنجليز سحب حملتهم من الإسكندرية كان من العوامل الحاسمة في إبرام الصلح بينهم وبين محمد علي، غير أن تعليمات الحكومة الإنجليزية نهائيا في ذلك لم تبلغ «فريزر» إلا بعد أن كانت المفاوضات بين الفريقين قد قطعت مرحلتها الأولى الاستطلاعية؛ وجس كل من الفريقين نبض الآخر من حيث التعرف على الأغراض التي يتوخاها من الدخول في المفاوضة، والشروط التي قد يرتضيها أساسا للاتفاق إذا تقرر المضي في المفاوضة جديا لإنهاء النزاع القائم سلما، ولقد كان محمد علي هو صاحب المبادأة في المرحلة الأولى الاستطلاعية.

فقد تقدم كيف أنه كان يتوقع جلاء الإنجليز عن الإسكندرية بعد هزيمتهم في الحماد، ولكنه ما إن تأكد لديه عزمهم على البقاء بها ووقف على التدابير التي اتخذوها لتحصين مواقعهم بها، حتى راح يبذل قصارى جهده لإنجاز تحصين القاهرة، وجلب النجدات من الدلاتية وغيرهم، وإنهاء تمرد ياسين بك، وتسوية مشاكله مع البكوات المماليك، واستغرقت هذه المحاولات - ولقد كانت شاقة ومضنية - زمنا طويلا، وصادف الباشا صعوبات عديدة شديدة، مبعثها حاجته إلى المال لسد النفقات التي تتطلبها أعمال التحصينات وترضية ياسين الأرنئودي، وقبل كل شيء دفع مرتبات الجند حتى يتسنى له تطويعهم وتنظيم صفوفهم، وتجهيزهم بما يحتاجون إليه من أسلحة ومؤن وعتاد قبل إنفاذهم لمحاربة الإنجليز، واستئناف العمليات العسكرية ضدهم، وهو قتال لو انهزم فيه جيشه لتقوضت عروش باشويته، ثم إن ياسين لم يلبث أن شق عصا الطاعة، وأعلن من جديد تمرده، وراح يسعى للانضمام إلى بكوات الصعيد، وعجز الباشا عن استمالة هؤلاء الأخيرين إلى الوفاء بعهدهم وإبرام الصلح معه، وكان بعد لأي وعناد وبعد أن وسط لديهم الوكلاء الفرنسيين أن وعد هؤلاء بالتزام موقف الحياد في النزاع الدائر بينه وبين الإنجليز، ثم إنه إذا كان البكوات قد ذهبوا إلى بني سويف، وجعلهم الفيضان يربضون بالصعيد، فهم سوف ينزلون منه إذا استطالت الحرب وانتصر الإنجليز، ولقد أتته النجدات من الشام وغيرها فعلا للاستعانة بها على محاربة الإنجليز، ولكن الباشا كان عليما بأساليب الدلاتية المجانين وما فطروا عليه من حب الشغب وإلحاق الأذى بالناس، ولا تزال البلاد تشكو من جورهم وعسفهم واعتداءاتهم، ثم إنه لا يمكن بحال الركون إليهم والاعتماد عليهم؛ لنزوعهم إلى التمرد والعصيان، وكذلك حال الأرنئود، فهم يسلبون الأهلين، وينهبون كل مكان مروا به أو قصدوا إليه، ويحقد بعض رؤسائهم - كما حقد ياسين بك - على محمد علي وصوله إلى الحكم والولاية، وبينهم من يعتقد أنه لا يقل جدارة عنه بهذا المنصب، وهو إذا كان قد استطاع اليوم تدبير المال لدفع قسم من مرتباتهم، لا هذه كلها؛ لأن هؤلاء ظلت لهم دائما مرتبات منكسرة، فقد يعجز غدا بسبب أزمته المالية الخانقة عن دفع هذا البعض من مرتباتهم إليهم، ولا أمل في انفراج هذه الأزمة إذا استمرت الحرب، وطالما بقيت الاضطرابات والقلاقل التي عطلت الزراعة وكسدت بسببها التجارة، واستمر ممتنعا عليه تحصيل المال والغلال من الصعيد لامتلاك البكوات المماليك له.

على أن استطالة أمد الحرب مع الإنجليز - كان عدا ما ذكرنا - ينطوي على خطر جسيم آخر، يهدد بالزوال باشوية محمد علي، ويأتيه من جانب الباب العالي نفسه، حقيقة جمعت محنة الحرب بين الفريقين، وأوجبت عليهما التضافر حتى يتسنى اجتيازها بسلام، ولكن أزمة النقل إلى سالونيك كانت لا تزال آثارها عالقة بذهن الباشا، وقد يعمد الباب العالي بالرغم من مشاغل حربه مع الروس والإنجليز إلى انتهاز فرصة المشاكل والمصاعب التي سوف توجدها استطالة أمد الحرب في مصر لمحاولة تدبير انقلاب آخر، قد لا ينجو من شره في هذه المرة محمد علي، وإذا كان الباب العالي قد سبق له أن اختار أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية القاهرة في الظروف التي عرفناها 1804 للقضاء على الفوضى السائدة بالبلاد وقتئذ، وإعادة سلطان الباب العالي عليها، فليس من المستبعد أن يعمد الباب العالي بعد أن تكون الحرب قد أنهكت قوى محمد علي إلى اختيار سليمان باشا والي عكا وصيدا لطرد محمد علي من الولاية، وكان سليمان باشا رجل مكر ودهاء، لا يؤمن جانبه، وصاحب أطماع عريضة، يدس للباشوات المجاورين له ليضم ولاياتهم إلى ولايته، ويعتمد عليه الباب العالي في مؤامرته ضد الباشوات لإضعافهم، وتقع باشويته هو على حدود باشوية القاهرة من جهة الشمال الشرقي؛ أي في الطريق الذي تسلكه الجيوش التي تجيء من ناحية الشام إلى هذه البلاد، إما لنجدة صاحب الحكم فيها، وإما لكسر شوكته أو طرده منها كلية؛ ولذلك فقد دأب محمد علي على التحرز من سليمان باشا، ولم تصف العلاقات بينهما.

ولقد شعر محمد علي بحاجته إلى النجدات من الجند من الدلاتية وغيرهم يعزز بهم جيشه، واستقدم فعلا عددا منهم حضروا من الشام، وقبرص إلى مصر عن طريق دمياط، الأمر الذي جعل «مسيت» - كما شهدنا - يلح في ضرورة أن تراقب إحدى سفن الأسطول ميناء دمياط لمنع نزول الجند الذين استقدمهم الباشا بها، وأكد أحد وكلاء الإنجليز «قسطنطين كاريري» عندما استجوبه «مسيت» في الإسكندرية في 17 يونيو بعد ذهابه إليها من القاهرة في الظروف التي مرت بنا، أن ستمائة من الجند قد وصلوا إلى القاهرة بطريق دمياط من الشام وقبرص، وأن عددا كبيرا غير هؤلاء محتشدون في قبرص، وأن الباشا ما فتئ يلح على حاكم هذه الجزيرة في إرسال جماعة أخرى منهم، ولا تحول صعوبة ما دون وصولهم إلى مصر؛ لأن الإنجليز لا يضعون إحدى سفنهم الحربية أمام دمياط للحيلولة دون نزولهم بها، وقد تكفل محمد علي بنفقات هذه النجدات التي استقدمها، والتي صار يطلبها هو بنفسه مباشرة ومن غير وساطة الباب العالي، وكان غرضه من ذلك عند التحاق هؤلاء الجند بخدمته أن يكونوا خاضعين له وحده، وألا يكونوا عامل إفساد وفتنة، ولم يشأ الباشا أن يطلب من الباب العالي نفسه أية نجدات عسكرية تأتيه من ولايات الدولة القريبة أو المتاخمة لولايته، تكون حينئذ تابعة لغيره من الباشوات وتحت نفوذهم، بل أن أخشى ما يخشاه كان أن يعهد الباب العالي إلى هؤلاء الباشوات، وإلى سليمان باشا على وجه الخصوص أن يبعثوا بجندهم لمعاونته على طرد الإنجليز من مصر، أو أن يحضروا بأنفسهم لتحقيق هذه الغاية؛ ولذلك فقد كان انتصار الحماد فرصة مواتية لإقناع الباب العالي بأن خطر الإنجليز ليس بتلك الجسامة التي تهدد بضياع هذا الإقليم من الدولة، وبأن هؤلاء ليسوا في تلك القوة التي يصعب على الباشا وحده التغلب عليها بما لديه من موارد ودون حاجة إلى الاستنجاد بالدولة، فأعد بيانا أو عرضا بهزيمة الإنجليز من إنشاء أحد الكتاب المشهود لهم بالبلاغة والفصاحة، السيد إسماعيل الخشاب البليغ النجيب والنبيه الأديب، كاتب سلسلة التاريخ أو محاضر جلسات الديوان على عهد الجنرال «منو»، وقال الشيخ الجبرتي: إنهم بالغوا في هذا العرض أو البيان، وفي 5 مايو سافر المتسفر بآذان قتلى الإنجليز، وقد وضعوها في صندوق، وسافر بها على طريق الشام وصحبته شخصان من أسرى فسيالات الإنجليز لتنهض بشائر النصر هذه دليلا على صدق كل ما جاء في العرض الذي دبجه يراع الخشاب، وكان «فوجلسانج» أحد هذين الضابطين اللذين أرسلهما الباشا إلى القسطنطينية.

ولكنه لم تمض أيام قلائل على سفر المتسفر، حتى وصل القاهرة في 13 مايو ططري من القسطنطينية وعلى يده مرسوم، فعمل الباشا ديوانا لقراءته، ومضمونه أن العرضى الهمايوني قد خرج من إسلامبول لقتال الروس، وذهب إلى ناحية أدرنه، وأن بشائر النصر حاصلة، والأهم من ذلك أنه بلغ الدولة، ورود نحو الأربع عشرة قطعة من المراكب إلى ثغر الإسكندرية، وأن الكائنين بالثغر تراخوا في حربهم حتى طلعوا إلى الثغر، فمن اللازم الاهتمام وخروج العساكر لحروبهم، ودفعهم وطردهم عن الثغر، وقد أرسلنا البيورلديات إلى سليمان باشا والي صيدا وإلى يوسف باشا والي الشام بتوجيههما العساكر إلى مصر للمساعدة، وإن لزم الحال لحضور المذكورين لتمام المساعدة على دفع العدو، ولا شك في أن قراءة هذا المرسوم بحضرة الجمع على نحو ما فعل محمد علي من شأنه أن يشيع الثقة في النفوس، ويدخل الطمأنينة إلى قلوب الأهلين، حينما يعلمون أن الدولة تهتم بأمرهم، وتسعى بالرغم من مسئولياتها وحروبها في إرسال النجدات إليهم لطرد العدو من بلادهم، ولو أنه كان هناك من الأهلين - كالشيخ الجبرتي - من انعدمت ثقتهم في قدرة الدولة على دفع خطر الغزو الأجنبي عنهم، أو أن الباب العالي يعني حقا ما يقوله في هذه المرسومات، وأنه سوف يرسل جندا لقتال الإنجليز، فلم يكن محل القصد في نظرهم، وعلى حد ما جاء في قول الشيخ الجبرتي نفسه من ورود هذه البيورلديات والفرامانات والأغوات والقبجيات سوى جر المنفعة لهم بما يأخذونه من خدمهم وحق طريقهم من الدراهم والتقادم والهدايا، يأخذها هؤلاء الرسل لأنفسهم ولرجال الديوان العثماني، على أن الباشا كان يدرك مدى الخطر الذي ينطوي عليه هذا الاهتمام الظاهر من جانب الباب العالي لنجدته وعزمه على إرسال يوسف باشا جنج وسليمان باشا خصوصا بجيوشهما إلى مصر إذا لزم الحال لحضور المذكورين؛ فلم يكن المرسوم الذي قرئ في الديوان في نظره مجرد عبارات منمقة ومسطرة لا تعدو إظهار النوايا الطيبة من جانب الباب العالي، أو أنها كانت وعودا مطمئنة فحسب، كما توهم الشيخ الجبرتي، بل كان أخوف ما يخافه أن يقرن الباب العالي القول بالعمل فيفسد عليه أمره.

Bog aan la aqoon