Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
Zenia
مما يدل على استحالة أن يكون الفريقان مخلصين في نواياهما، ولا يزال الوكيل الفرنسي «مانجان» مقيما في معسكر البكوات، ويبعث إليه «دروفتي» بالرسل يوميا، والمفاوضات جارية دون انقطاع، ويؤكدون أن الفريقين ليسا على علاقات ودية، وأنهما سوف يصطدمان في آخر الأمر، ولكنه لا يوجد ما يدل على أنهما في حالة حرب ضد بعضهما البعض، أو أن هناك سوء تفاهم بينهما، ومن شأن هذا التحذير الذي أبعث به إليك أن يجعلك محتاطا ومتحذرا في علاقتك مع البكوات ولقد أبدى لي أحد الأفراد في خدمة هؤلاء الأخيرين، أنه في حالة نشوب معركة بين الجند الإنجليز وجند الباشا فسوف يتمكن البكوات من الانقضاض على الجانب الذي يبدو حينئذ أنه أضعف من الآخر، وأنه لا غرض للبكوات إلا خديعة الإنجليز والباشا على السواء وبنفس الطريقة التي يخدعهم بها هذا الأخير .»
ولقد كان جمود البكوات، واستنادهم على هذه الأساليب الملتوية التي برهنت على عبثها الحوادث السابقة، ومن أيام مسعى الألفي في القسطنطينية لاسترجاع الحكم في مصر، من أهم العوامل الحاسمة لا في فشل عمليات حملة «فريزر» العسكرية فحسب، بل وفي تفويت فرصة استرجاع الحكم على أنفسهم في هذه المرة كسابقتها، وغني عن البيان أن الإنجليز وقد كان قد تحدد غرضهم من المجيء إلى الإسكندرية على الصورة التي أوضحناها مرارا، والتي تمنعهم من توسيع نطاق عملياتهم العسكرية، لم يكن في وسعهم الارتباط مع المماليك ارتباطا يعيد إلى الأذهان ما حدث أيام «هتشنسون» في حملتهم السابقة، واستئناف سياسة دلت الحوادث على خطئها، ولا تدخل المثابرة عليها في نطاق برنامجهم العسكري والسياسي في الظروف الراهنة، وقد بسط هذه الحقيقة «هالويل» في رسالته إلى «ثورنبروه» في 23 يوليو - وقد سبقت الإشارة إليها - فقال تعليقا على تحذير «بتروتشي»: «لقد بعثت إليكم في رسالتي الأخيرة صورة من بعض ما جاء بكتاب «بتروتشي» قنصل النمسا العام في رشيد، يحذرنا من مكايد المماليك ومؤامراتهم، وهم الذين يرى ما يدعوه إلى التشكك في إخلاصهم وولائهم للإنجليز، ولقد بعثت إليكم أيضا طي تلك الرسالة بصورة من الخطابات الثلاثة الأخيرة التي أرسلها المماليك إلى الجنرال «فريزر» - من إبراهيم بك في 11 يوليو وأحمد بك الألفي وشاهين بك الألفي في 14 يوليو - وهم لا يزالون ينتظرون منا أن نملكهم الحكم في هذه البلاد، الأمر الذي وعدهم به الميجور «مسيت» دون أي تفويض من حكومة جلالة الملك، ولقد كان الحذر العظيم رائدنا منذ قدومنا؛ حتى نتجنب الارتباط بأية ارتباطات أو بذل أية وعود للماليك أو غيرهم، قد يترتب على عدم تنفيذها توريط حكومتنا وخلق الصعوبات لها في المستقبل ...»
وكان «بتروتشي» محقا في تحذيره للإنجليز من ناحية المماليك؛ لأن مفاوضات كانت تجرى فعلا وقتئذ بينهم وبين محمد علي، فقد استفاد الباشا من نجاح مساعيه الأولى معهم أثناء وجوده بالصعيد، وهو نجاح وإن كان محدودا فقد ترتب عليه اتخاذ البكوات موقف الحياد وعدم نزولهم من الصعيد للانضمام إلى الإنجليز قبل كارثتهم في الحماد، ولما كانت قد تضافرت عوامل أخرى، أعمق أثرا في جعل البكوات لا يستجيبون لنداءات الإنجليز، فقد انحصر اهتمام الباشا في أن يستمر جمودهم، فكان شغله الشاغل في الأيام التالية لواقعة الحماد خصوصا شل حركة هؤلاء بكل وسيلة؛ ولذلك فقد ظلت مسألة البكوات من أخطر الصعوبات التي صادفها محمد علي، والتي كانت من بين الأسباب الهامة التي أقنعته في آخر الأمر بضرورة التعجيل في الاتفاق مع الإنجليز لإخراجهم سلما إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، أفضل من قتالهم في حرب قد تستطيل بسبب ما يصلهم من نجدات، وقد يستفحل شرها بسبب انضمام المماليك إليهم.
الباشا في القاهرة
وقد وصل إلى القاهرة خبر هزيمة الإنجليز في الحماد بعد الواقعة بيومين، فحضر في 23 أبريل شخصان من السعاة وأخبرا بالنصر على الإنجليز وهزيمتهم، وفسر هذان الحادث بأنه اجتمع الجم الكثير من أهالي بلاد البحيرة وغيرها وأهالي رشيد، ومن معهم من المتطوعة والعساكر وأهل دمنهور، وصادف وصول كتخدا بك وإسماعيل كاشف الطوبجي إلى تلك الناحية، فكان بين الفريقين مقتلة كبيرة، أسفرت عن قتل كثير من الإنجليز وقطع عدة رءوس فخلع الباشا على الساعيين جوختين، ثم لم يلبث أن تحقق الخبر عندما وصل أيضا في أثر ذلك شخصان من الأتراك وصفا ما حدث بأن الإنجليز انجلوا عن متاريس رشيد وأبي منضور والحماد، ولم يزل المقاتلون من أهل القرى خلفهم إلى أن توسطوا البرية وغنموا جبخانتهم وأسلحتهم ومدافعهم ومهراسين عظيمين، وذكرا أنه وصل خلفهم أسرى ورءوس قتلى كثيرة في عدة مراكب، واعتقد الشيخ الجبرتي أنهما بالغا في الأخبار لاستبعاد أن تنزل بجنود الإنجليز مثل هذه الكارثة، ولكن القاهريين لم يلبثوا أن شاهدوا في الأيام الأربعة التالية الأسرى يمرون في شوارع المدينة إلى معتقلهم بالقلعة، كما شاهدوا رءوس القتلى، ومنذ أن وصل خبر هذه الهزيمة في 23 أبريل أمر الباشا بإطلاق المدافع الكثيرة من القلعة والأزبكية وبولاق والجيزة احتفالا بالنصر، ولم يسع الشيخ الجبرتي عندما تحقق لديه أنه لم تكن هناك مبالغة في وصف ما حدث للإنجليز إلا أن يعلق على هزيمة الحماد بقوله: «وهذه الواقعة حصلت على غير قياس، وصادف بناؤها على غير أساس؛ لأنه لم يخطر في الظن حصول هذا الواقع، ولأن الرعايا والعسكر لهم قدرة على حروب الإنجليز (أي إنه لم يخطر في الظن أن لهؤلاء قدرة على ذلك)، وخصوصا شهرتهم بإتقان الحروب، وهم الذين حاربوا الفرنساوية وأخرجوهم من مصر»، وعزا الشيخ هزيمتهم إلى فساد رأيهم ورأي الأمراء المصرية، «فأما فساد رأي الإنجليز فلتعديهم الإسكندرية مع قلتهم وسماعهم بموت الألفي وتغريرهم بأنفسهم، وأما الأمراء المصريون فلا يخفى فساد رأيهم بحال، وثمة سبب آخر ذكره الشيخ، هو أن هزيمة الإنجليز الأولى في رشيد أعادت الثقة إلى نفوس الجند والأهلين، وجعلتهم يستخفون بهم ويستهينون بأمرهم، فقد تراجعت نفوس العساكر بعد انتصارهم في رشيد وطمعوا عند ذلك في الإنجليز، وتجاسروا عليهم، وكذلك أهل البلاد قويت هممهم وتأهبوا للبروز والمحاربة، واشتروا الأسلحة، ونادوا على بعضهم بعضا بالجهاد، وكثر المتطوعون، ونصبوا لهم بيارق وأعلاما وزنورا، فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم، وصدقوا في الحملة عليهم، وألقوا أنفسهم في النيران، ولم يبالوا برميهم، وهجموا عليهم، واختلطوا بهم، وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم، فألقوا سلاحهم، وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك، وقبضوا عليهم، وذبحوا الكثير منهم، وحضروا بالأسرى والرءوس على الصور المذكورة، وفر الباقون إلى من بقي بالإسكندرية.»
وكان من أثر ذيوع هذه الأنباء في القاهرة، أن عادت الثقة إلى نفوس القاهريين كذلك، والأهم من ذلك إلى نفوس المشايخ الذين عظم التفافهم الآن حول محمد علي وتأييدهم له، واتخذوا من واقعة الحماد وهزيمة الإنجليز بها سببا لاستنهاض الهمم وإشعال حماس القاهريين، وبث الدعوة للجهاد، فشمر هؤلاء عن ساعد الجد لإنجاز التحصينات بكل سرعة، وأقبلوا على حفر الخنادق، وإقامة الأسوار بهمة عظيمة، وصار الباشا يخرج بنفسه وبصحبته «دروفتي» جملة مرات في النهار الواحد؛ لتفقد هذه الأعمال والإشراف على سيرها، وعلاوة على ذلك، فقد كان من أثر هزيمة الإنجليز أن صار الأرنئود والعثمانلي العصاة الذين كانوا قد انضموا قبلا إلى البكوات، ينفضون من حولهم، ويحضرون الآن يوميا - كما كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في آخر أبريل - ويعرضون خدماتهم على الباشا.
وقد خيل إلى الباشا في أول الأمر أن الإنجليز بعد هزيمتهم سوف يجلون عن الإسكندرية، ولكنه سرعان ما تبين له عزمهم على البقاء والتحصن بها، عندما وقف على التدابير التي اتخذها هؤلاء لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية، ولا سيما قطع سد المعدية، وقد حدث بعد واقعة الحماد بأيام قليلة أن أرسل حسن باشا و«طبوز أوغلي» من رشيد أحد الضباط يحمل رسالة إلى الجنرال «فريزر» بالإسكندرية ضمناها احتجاجا على هجوم ما كان يجب أن يحدث؛ بسبب الصداقة القائمة بين الأمتين من قديم الزمن، وملاحظات على ما تبذله إنجلترة من جهود لا طائل تحتها للاستيلاء على مصر، وطالبا بإخلاء الإسكندرية التي سوف يحاصرها - كما ذكرا - جنود الباشا عاجلا، فكان جواب «فريزر» على ذلك إنما هو ينفذ تعليمات حكومته إليه، ويؤلمه أن تسوء العلاقات بين الأمتين الإنجليزية والعثمانية، ولاحظ رسولهما أن القطع الذي قطعه الإنجليز بين المعدية ومريوط متسع جدا، لدرجة أن جعل تدفق المياه إلى البحيرة الأخيرة من الصعوبة بمكان الانتفاع من الجسر المتحرك الذي أقامه الإنجليز عبر القطع، ثم تأكد لدى الباشا عزم الإنجليز على عدم إخلاء الإسكندرية، وجدية التدابير التي اتخذوها للدفاع عنها، عندما عاد إلى القاهرة في 23 مايو عابدين بك أخو حسن باشا، وحضر في أثره أحمد أغا لاظ وغيره يبلغون الباشا فشل محاولتهم المعروفة يوم 16 مايو خصوصا التي أرادوا بها مهاجمة أبي قير، واستطاعوا الوصول إلى قرب معدية البحيرة؛ أي قطع المعدية، ولكن لم يلبث أن خرجت عليهم طائفة من الإنجليز من البر والبحر، وضربوا عليهم مدافع ونيرانا كثيرة، فولوا راجعين وحضروا إلى القاهرة.
وعندئذ لم يعد هناك مناص من خروج الباشا نفسه والزحف على الإسكندرية لاستخلاصها من أيدي الإنجليز، ولكن صعوبات عدة حالت دون خروج محمد علي فورا لمناجزة هؤلاء، كان أهمها حاجته الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند، وتجهيز الحملة المنتظرة، وسداد نفقات الأهلين الذين تولوا أعمال الحفر والبناء وما إلى ذلك من الأعمال اللازمة لإنجاز تحصينات القاهرة ذاتها قبل خروجه، وهي أعمال ما كان يكفي جنده بالقاهرة وحدهم لإنجازها، ثم إنه ما كان يستطيع مغادرة القاهرة قبل الوصول إلى اتفاق مع ياسين بك الأرنئودي الذي استمر في ثورته وتمرده، وتجمع حوله حشد من الجند الأرنئود والعثمانلي المتمردين، ومن العربان والمماليك، على حدود إقليمي بني سويف والجيزة، وقد بدأ الباشا يتراسل معه من أجل إقناعه بالصلح والمسالمة، زد على ذلك أنه لم يكن مطمئنا إلى موقف البكوات المماليك؛ وذلك لأنه حسب الاتفاق المبدئي الذي تم بينهم وبين محمد علي في أسيوط كان من المنتظر أن ينزل هؤلاء من الصعيد إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي، ولكن تباطؤ البكوات في النزول اضطره إلى إرجاء زحفه على الإسكندرية حتى يطمئن إلى وقوفهم موقف الحياد عند استئناف القتال بين جيشه وبين الإنجليز، ولم يغب عن ذهن محمد علي أن البكوات إذا انضموا إلى هؤلاء الأخيرين جعلوا قطعا كفتهم هي الراجحة على كفته، أضف إلى هذا كله أن تأمين أهل رشيد والحماد على أنفسهم وأموالهم، ووقف اعتداءات جنده عليهم، كانت المسألة التي واجهته مباشرة بعد حوادث المعارك الأخيرة بتلك الجهات؛ وعلى ذلك، فقد حرص محمد علي على معالجة كل هذه المسائل قبل زحفه على الإسكندرية، ثم إنه توقف على مدى نجاحه أو إخفاقه في معالجتها تقريره الاشتباك مع الإنجليز، أو تفضيل الاتفاق معهم على جلائهم عن الإسكندرية سلما ودون قتال.
فقد حدث بعد هزيمة الإنجليز في الحماد وتقهقرهم إلى الإسكندرية أن اعتبر جند الباشا قرية الحماد والجهات المجاورة لها دار حرب بنزول الإنجليز عليها وتملكها، فنزلوا عليها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها، فتدخل بعض وجهاء الناحية أو الظاهرين لمنعهم ولكن دون جدوى، فبعث هؤلاء الظاهرون إلى القاهرة يستفتون علماءها فيما إذا كانت بلادهم قد صارت دار حرب، يصح للأرنئود استباحة أهلها ونهب أموالها؟ وكتبوا في ذلك سؤالا، وكتب عليه المفتون بالمنع وعدم الجواز، ثم أحاط الجند ورؤساؤهم برشيد ذاتها، وضربوا على أهلها الضرائب، وطلبوا منها الأموال والكلف الشاقة، وأخذوا ما وجدوا بها من الأرز للعليق، فضج الأهلون بالشكوى وتوسط حسن كريت لدى حسن باشا وكتخدا بك «طبوز أوغلي» لوقف هذه الاعتداءات، وتكلم معهما، وشنع عليهما، مهددا بخروج جميع أهل رشيد إلى جهة أخرى، وترك المدينة يفعلون بها ما يشاءون، وتدخل حسن باشا و«طبوز أوغلي» لمنع هذه الاعتداءات، وأخذا يتلطفان مع السيد حسن كريت، ولكن هذا الأخير بادر بالكتابة إلى الباشا والسيد عمر مكرم بالقاهرة، واهتم محمد علي بالأمر، وبعث بفرمان إلى الجند بالكف والمنع لتأمين الأهلين على حياتهم وأموالهم.
Bog aan la aqoon