Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
ولكنه لما كان مجيء النجدات إلى الإسكندرية يتعارض مع خطط الوكلاء الإنجليز وتدابيرهم، فقد روج هؤلاء شتى الإشاعات المجنونة عن الغرض من إرسال الأرنئود، وعن التعليمات المعطاة لهم، وراحوا يؤكدون أن المدينة إذا دخلها الأرنئود فسوف تسود فيها الفوضى، وتنهب متاجرها وأموالها، ولا يأمن أحد من سكانها على حياته، وهاج الأهلون هيجانا عظيما، وهرعوا إلى تسليح أنفسهم لمنع دخول الأرنئود إلى مدينتهم بالقوة، وتزعم حركة المقاومة هذه الشيخ محمد المسيري، والتف حوله أعيان الثغر، ثم ذهب بهم الشيخ إلى أمين أغا يطالبونه بتأمين مصالحهم، وأظهر أمين أغا عزمه على مقاومة أوامر محمد علي بالقوة، وقال «دروفتي»: إن سكان الإسكندرية جميعهم قد تسلحوا في ليل 14 مارس لدفع الأرنئود إذا حضروا، وإن أمين أغا يؤكد انتفاء الحاجة إلى هؤلاء الجنود؛ حيث إن أهل الإسكندرية في وسعهم وحدهم الدفاع عنها، وكان «دروفتي» قد حاول تدارك الأمر، فأرسل إلى أهالي رشيد يبلغهم عزم أهل الإسكندرية على رد جند سليمان أغا بالقوة، ووجد على بك السنانكلي من الحكمة قبل ذهاب هؤلاء إلى الإسكندرية أن يبعث بسفارة إلى أمين أغا والمشايخ بالثغر لإقناعهم بضرورة الاتحاد في العمل تنفيذا للأوامر العليا الصادرة من الباب العالي بشأن تحصين الثغور والدفاع عنها، ثم تهدئة الإسكندريين وتسكين خواطرهم، ووصل فعلا مندوبه المكلف بهذه المهمة يوم 13 مارس، ولكن هذه المساعي ذهبت سدى؛ وعلى ذلك فإنه ما إن وصلت المراكب تحمل الأرنئود إلى الميناء القديم في صبيحة يوم 15 مارس حتى وجد هؤلاء أبواب المدينة مغلقة، والأسوار محصنة، والأهالي على قدم واحدة لردهم بالقوة، فاضطر سليمان أغا إلى الانسحاب إلى رشيد، وقد شهد هذه الحوادث قومندان السفينة الإنجليزية «ويزارد»، وكان بعد انسحاب الأرنئود وسليمان أغا أن غادرت هذه السفينة الميناء، وأبلغ أمين والمشايخ حكومة الباشا في القاهرة ردا على المكاتبة التي سبق إرسالها إلى أهل الثغور والمحافظين عليها بأن فيهم الكفاية ولا يحتاجون إلى عساكر زيادة تأتيهم من مصر، فإنهم إذا كثروا في البلد تأتى منهم الفساد والإفساد، فرأى مشايخ القاهرة وأعيانها والسلطات الحاكمة بها برئاسة «طبوز أوغلي» كتخدا بك الذي عهد إليه الباشا - كما أسلفنا القول - بإدارة شئون الحكم أثناء غيابه ، عقد جمعية ببيت القاضي ... لإثبات هذا القول، ولخلاص عهدة الباشا لئلا يتوجه عليه اللوم من السلطنة وينسب إليه التفريط وذلك يوم 17 مارس.
على أنه ما كاد ينسحب سليمان أغا إلى رشيد بجنده، حتى رجعت السفينة «ويزارد » في اليوم التالي (16 مارس) تتبعها في هذه المرة سفينة أخرى نزل منها «أكورت» وضابط آخر، يطلبان مقابلة أمين أغا، وأعلنا إليه نبأ قطع العلاقات بين تركيا وإنجلترة، وأن أسطولا إنجليزيا قد حضر يحمل عددا عظيما من الجنود، ويقف في مكان قريب جدا من الشاطئ، وطلبوا الطلوع إلى الثغر، وتسليم الإسكندرية طوعا، وحضر «مسيت» هذه المقابلة، ولكن أمين أغا لم يسعه في هذه المفاوضة الرسمية إلا التمسك بما لديه من أوامر الباب العالي، فأجاب بأنه لا يمكنهم من الطلوع إلا بمرسوم سلطاني، فقالوا لم يكن معنا مراسيم، وإنما مجيئنا لمحافظة الثغر من الفرنسيس، فإنهم ربما طرقوا البلاد على حين غفلة، وقد أحضرنا صحبتنا خمسة آلاف من العسكر نقيمهم بالأبراج لحفظ البلدة والقلعة والثغر، فقال أمين لم يكن معنا إذن، وقد أتتنا مراسيم بمنع كل من وصل عن الطلوع من أي جيش كان، فقالوا لا بد من ذلك، فإما أن تسمحوا لنا في الطلوع بالرضا والتسليم، وإما بالقهر والحرب، والمهلة في رد الجواب بأحد الأمرين أربعة وعشرون ساعة، فقال أمين: إنه لا يستطيع تقرير شيء إلا إذا استشار المشايخ، وذكر «دروفتي» أن أمين أغا أشرك في هذا المجلس الذي دارت فيه المباحثات مع أكورت وزميله نفرا من المشايخ، ولم يعرف أحد شيئا عما دار وقتئذ في هذا المجلس السري، ولكنه سرعان ما ساورته الشكوك في عزم الحاكم والمشايخ على المقاومة، عندما شهد الاجتماعات تعقد في كل مكان طوال هذا اليوم دون الوصول إلى قرار حاسم، وتأكد لديه تخاذل الإسكندريين ورؤسائهم الذين عظمت دهشتهم عندما فوجئوا في صبيحة اليوم التالي (17 مارس) بمشاهدة سبعة عشر مركبا إنجليزيا تسد مدخل الميناء القديم.
ولقد كان بسبب هذا التخاذل أن استطاع «فريزر» - كما أسلفنا - إنزال قسم من جنوده إلى البر في مساء 17 مارس دون مقاومة، وذلك بالرغم من خطورة هذه العملية بسبب شدة الأنواء، ولعجز الإنجليز عن إدخال سفينة قيادتهم تيجر في الميناء القديم، نتيجة لتسرب المياه إليها، ثم لرسو بقية قطع القافلة البحرية على مسافة ميلين من الشاطئ، حتى إنه كان في استطاعة العمارة العثمانية مع قلة عدد قطعها، والرابضة على مسافة تقل عن أربعة أميال فحسب، تحطيم السفن الإنجليزية لو أنها اشتبكت معها في معركة وقتئذ، ولكن مغامرة إنزال الجنود البريطانيين إلى البر مرت في سلام، وانقضى ليل 17 مارس دون أن يلقى الإنجليز أية مقاومة، ثم بدأ في اليوم التالي ذلك الزحف الذي انتهى بسقوط الإسكندرية وتسليمها دون إطلاق رصاصة واحدة في الظروف التي ذكرناها، وكان بعد تسليم الإسكندرية أن كتب «مسيت» إلى «وندهام» في 23 مارس، ينقل إليه نبأ هذا التسليم، ثم يقول: «وأجد من حقي أنه قد اتضحت صحة التقرير الذي ذكرت فيه ضعف الحامية، وميول السكان الطيبة نحونا، فإنه إذا كان حاكم الإسكندرية قد امتنع عن التسليم ثماني وأربعين ساعة بعد إنزال الجنود إلى البر، فإنه إنما فعل ذلك حتى يحمي نفسه من غضب حكومته، وإذا كان الأهلون لم يبادروا فورا بفتح أبواب المدينة أو يرغموا حاميتها على التسليم، فالواجب أن يعزى ذلك إلى قلة نشاطهم، حيث إن الظلم الذي عانوه طويلا قد قضى على روحهم المعنوية، ولكنه ما إن وقع الهجوم على خط التحصينات الممتد من الميناء القديم إلى بحيرة مريوط واتخذ البريطانيون مواقعهم إلى الشرق من الإسكندرية، حتى ترك الجنود قلاعهم وغادر معظمهم الصفوف، وبمجرد أن وجد الأهلون أنهم ما عادوا يخشون شيئا من جانب الحامية، بادروا بإرسال علم الهدنة يعرضون تسليم المدينة.»
وأما هذا التخاذل المتعمد الذي بدا من جانب أمين أغا والشيخ المسيري وأضرابهما فقد أقنع «دروفتي» بوجوب مغادرة الإسكندرية قبل سقوطها في أيدي البريطانيين الذي بات متوقعا، فاستطاع مبارحتها يوم 17 مارس والذهاب إلى القاهرة، فقد حرص «دروفتي» منذ أن شاهد السفينة الإنجليزية التي دخلت الإسكندرية في 20 فبراير تحمل بعض رجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية، على إبلاغ محمد علي وحكومته في القاهرة بما أذاعه هؤلاء الأخيرون والوكلاء الإنجليز في الثغر عن قرب مجيء الحملة البريطانية حتى يعمل على تحصين الشاطئ الشمالي، ثم إنه انتهز هذه الفرصة ليشير عليه بضرورة مضاعفة جهده ضد البكوات؛ لأن الإنجليز يعتمدون عليهم قبل أي شيء آخر في نجاح مشروع غزوهم، واستطاع «دروفتي» بفضل ما بذله من رشاوى أن يقف على الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي «ويزارد» إلى الإسكندرية، وذهاب القنصل الإنجليزي بالثغر «صمويل بريجز» لمقابلة قائده، ثم إرسال الرسل عقب هذه المقابلة إلى القاهرة ورشيد ودمياط، وذلك لإبلاغ البكوات بأن أسطولا إنجليزيا سيأتي إلى الإسكندرية، ويطلب إليهم لذلك النزول من الصعيد للانضمام إلى البريطانيين ضد العدو المشترك، فأرسل «دروفتي» عندئذ الرسل على عجل، لنصح الباشا بقطع كل المواصلات بين الصعيد والإسكندرية، وبأن يبذل قصارى جهده وهو بالصعيد لإرغام البكوات على التسليم، وبأن يرسل قوات كبيرة إلى الرحمانية ودمنهور والإسكندرية، كما أن «دروفتي» صار يلح على أمين أغا في ضرورة الاستعداد لمقاومة كل هجوم يقع على الإسكندرية، وعمل وقتئذ أمين أغا برأي «دروفتي» وقام بتسليح كل سكان الإسكندرية، ثم حضر الأرنئود بقيادة سليمان أغا إلى رشيد، ولكن مساعي الوكلاء الإنجليز لدى أمين والشيخ المسيري ولدى الأهلين عموما لم تلبث أن تكللت بالنجاح، وعارض هؤلاء - كما رأينا - في دخول الأرنئود إلى مدينتهم، وعندئذ وجد «دروفتي» أنه لم تعد هناك أية فائدة من وجوده بالإسكندرية، وأن هذه سوف يأتيها الإنجليز وتسقط في أيديهم من غير مقاومة.
وتبين نفاق الشيخ المسيري عندما صار يبدي ل «دروفتي» أسفه وغضبه لأن الأرنئود لم يدخلوا الإسكندرية، ويعد بأنه سوف يبذل قصارى جهده لإحضار هؤلاء وإدخالهم إلى المدينة، ومع أن «دروفتي» علق على ذلك بقوله: إن هذا الأسف والغضب، وهذه الوعود التي جاءت متأخرة جدا، فقد ظل - على ما يبدو - منخدعا بالشيخ واعتقد أن هذا يعني حقا ما يقوله، ولقد ظهر نفاق الشيخ المسيري كذلك عندما أراد «دروفتي» في 16 مارس أن يحصل على جواز مرور لخوفه من الوقوع في قبضة الإنجليز، وتكليف حرس بحمايته في طريقه إلى رشيد، فوعد الشيخ بمساعدته، ولكنه حتى صباح اليوم الثاني لم يكن «دروفتي» قد ظفر ببغيته؛ لأن الوكلاء الإنجليز الذين خشوا من نشاطه، طلبوا من أمين أغا منعه من مغادرة الإسكندرية، فلم يجد «دروفتي» عندئذ مناصا من جمع حوالي خمسة عشر أو عشرين نوتيا فرنسيا كانوا يمرون وقتئذ بالإسكندرية، وذهب بهم (17 مارس) إلى أحد أبواب الإسكندرية، وتمكن من الخروج بعد تهديد الحراس ومسدسه بيده، ووصل في ليل 17 مارس إلى رشيد، وأبلغ حاكمها علي السنانكلي أن الشيخ المسيري يميل لقبول الأرنئود، وفي صبيحة يوم 19 مارس تحرك هؤلاء من جديد صوب الإسكندرية، ثم عسكروا تحت أسوارها، ولكن دون طائل؛ لأن أمين أغا لم يلبث أن وافق على تسليم الإسكندرية، وأبرمت شروط التسليم - كما عرفنا - في 20 مارس، فعادوا أدراجهم إلى رشيد، وأما «دروفتي» فقد غادر رشيد ظهر يوم 19 مارس بطريق النيل إلى القاهرة، فبلغها في 24 مارس، ولم يجد «دروفتي» محمد علي بالقاهرة لأنه كان لا يزال بالصعيد. (5) القاهرة في غياب محمد علي
وأما القاهرة وقت أن بلغها «دروفتي» فكانت في اضطراب عظيم، فقد وردت إليها مكاتبات بعد خروج محمد علي إلى الصعيد بحوالي أسبوعين من وزير الدولة العثمانية، وفيها الخبر بوقوع الغزو بين العثماني والموسكوب، والأمر بالتيقظ والتحفظ وتحصين الثغور، فربما أغاروا على بعضها على حين غفلة، وكذلك وردت أخبار بمعنى ذلك من حاكم أزمير وحاكم رودس، وأن الإنجليز معاونون لطائفة الموسكوب لاستمرار عداوتهم مع الفرنساوية؛ لكون الفرنساوية متصادقين مع العثماني، وعرف القاهريون أن أهل الإسكندرية قد شرعوا في تحصين قلاعها وأبراجها، وأن العمل يجري لتحصين أبي قير كذلك، وبادر كتخدا بك «طبوز أوغلي» الذي تركه محمد علي في حكومة القاهرة يعاونه حسن باشا والدفتردار وغيرهما من كبار الموظفين والرؤساء العسكريين، ثم السيد عمر مكرم - بإرسال من يتقيد ببناء قلعة البرلس، فكان من أثر ذلك كله أن اهتاجت الخواطر، وحصل لمصر - كما يقول الشيخ الجبرتي - قلق ولغط وغلت الأسعار في البضائع المجلوبة، وعقدت الاجتماعات في بيتي الكتخدا بك والسيد عمر مكرم، واستقر الرأي على إرسال ديوان أفندي بالمكاتبات التي وصلت من القسطنطينية والأخبار التي جاءت من أزمير ورودس إلى محمد علي باشا بالجهة القبلية، وأمر محمد علي بضرورة أن تذهب فورا قوة من أربعمائة أرنئودي بقيادة سليمان أغا لتعزيز حامية الإسكندرية، وهي القوة التي وصلت فعلا إلى رشيد، ولم تفلح في الدخول إلى الإسكندرية للأسباب التي ذكرناها، وفي 28 فبراير اجتمع الفقهاء بالأزهر لقراءة صحيح البخاري في أجزاء صغار، وفي 6 مارس بلغ القاهرة نبأ تهديد حملة «داكويرث» للقسطنطينية، وانزعاج أهل هذه انزعاجا شديدا حتى إنهم أيقنوا بأخذ الإنجليز البلدة، ولو أرادوا حرقها لأحرقوها عن آخرها، ثم خروج أسطول «داكويرث» من البغاز (البوغاز) سالمين مغبوطين بعفوهم مع المعذرة، ثم لم تلبث أن جاءت الأخبار القاهرة في 18 مارس عن وصول حملة «فريزر» إلى الإسكندرية، ومطالبة القائد الإنجليزي لحاكمها أمين أغا بالتسليم وإمهاله أربعا وعشرين ساعة، بعث الإسكندريون بهذه الأخبار في مكاتبات إلى القاهرة، وعندئذ اجتمع كتخدا بك وحسن باشا وبونابرتة الخازندار وطاهر باشا والدفتردار والروزنامجي وباقي أعيانهم، وذلك بعد الغروب، وتشاوروا في ذلك، ثم أجمع رأيهم على إرسال الخبر بذلك إلى محمد علي باشا ويطلبونه للحضور هو ومن بصحبته من العساكر؛ ليستعدوا لما هو أولى وأحق بالاهتمام، ففعلوا ذلك، ويستمر الشيخ الجبرتي في تسجيل هذه الوقائع فيقول: وانصرفوا إلى منازلهم بعد حصة من الليل، وأرسلوا تلك المكاتبة في صبح يوم الجمعة 19 مارس صحبة هجانين، وشاع الخبر، وكثر لغط الناس في ذلك، وفي ليلة الاثنين 22 مارس، وردت مكاتبة من رشيد بأن الإنجليز قد طلعوا إلى الثغر ودخلوا البلدة (الإسكندرية) وعدم علمهم بالكيفية.
وأما «دروفتي» فقد وصل إلى القاهرة - كما ذكرنا - في 24 مارس، وقال الشيخ الجبرتي إنه ذكر عند وصوله أنه يريد السفر إلى الشام هو وباقي الفرنساوية القاطنين بمصر، وقابل «دروفتي» كتخدا بك، وكان قد أرسل إليه الرسل من الإسكندرية في 16، 17 مارس، ثم من رشيد في 18 مارس لإبلاغه بما حدث، وتشاور معه طويلا في الأمر، وكتب «دروفتي » إلى «سباستياني» في 25 مارس أن الباشا الموجود بالصعيد سوف يحضر إلى القاهرة حتى يكون - كما يقول كتخدا بك - في مركز الحوادث، واقترح «دروفتي» من جانبه أن يكتب إلى بكوات بيت البرديسي وسليمان بك الجرجاوي حتى لا ينضموا إلى الإنجليز، وينظروا في هدوء ما قد تسفر عنه الحملة الإنجليزية من نتائج، حيث من المتوقع أن تفضي هذه الغزوة إلى إرسال حملة فرنسية، سوف يتوقف عليها الفصل نهائيا في تنظيم البلاد السياسي، وطلب «دروفتي» من «طبوز أوغلي» إرسال ططري إلى القسطنطينية مزودا بأخبار الحوادث الأخيرة، ويطلب النجدة، ولكن الكتخدا بك رفض ذلك، حتى يعرف حقيقة قوات العدو، ومسلك حامية الإسكندرية.
ثم وجد «دروفتي» القاهرة في خوف واضطراب عظيمين، بسبب ما ورد من أخبار عن سقوط الإسكندرية، وقد تزايد الخوف والاضطراب عندما جاءتها الأخبار في 27 مارس تؤيد نبأ أخذ الإسكندرية واستيلاء الإنجليز عليها، ودخولهم إليها وامتلاكهم لأبراجها ونزول صاري عسكرهم «فريزر» بوكالة القنصل، بل وعرفت الشروط التي سلمت بمقتضاها الإسكندرية، فأثبتها الشيخ الجبرتي - كما عرفها - في قوله: وشرطوا مع أهالي البلد شروطا منها: أنهم لا يسكنون البيوت قهرا عن أصحابها، بل بالمؤاجرة والتراضي، ولا يمتهنون المساجد، ولا يبطلون منها الشعائر الإسلامية، وأعطوا أمين أغا الحاكم أمانا على نفسه، وعلى من معه من العسكر، وأذنوا لهم بالذهاب إلى أي محل أرادوه، ومن كان له دين على الديوان يأخذ نصفه حالا والنصف الثاني مؤجلا، ومن أراد السفر في البحر من التجار وغيرهم فليسافر في خفارتهم إلى أي جهة أراد، ما عدا إسلامبول، وأما الغرب والشام وتونس وطرابلس ونحوها فمطلق السراح لا حرج ذهابا وإيابا، ومن شروطهم التي شرطوها على أهل البلد أنهم إن احتاجوا إلى قومانية أو مال لا يكلفون أهل الإسكندرية بشيء من ذلك، وأن محكمة الإسلام تكون مفتوحة تحكم بشرائعها، ولا يكلفون أهل الإسلام بقيام دعوى عند الإنجليز بغير رضاهم، والحمايات من أي بنديرة تكون مقبولة عند الإنجليز الموجودين في الإسكندرية، ويقيمون مأمونين رعاية لخاطر أهل الإسكندرية، ولم يحصل لهم شيء من المكروه حتى الفرنساوية، والجمارك من كل الجهات على كل مائة اثنان ونصف؛ وعلى ذلك انتهت الشروط.
فكان من أثر ذلك، أن تزايد هياج الخواطر في القاهرة، واستبد الرعب على وجه الخصوص بطوائف العسكر الذين أفزعهم تسليم الإسكندرية ، وهي التي يعدونها أقوى مواقع الدفاع في البلاد، ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع لهم، فيقول: «ولما شاع أخذ الإنجليز للإسكندرية داخل العسكر والناس وهم عظيم، وعزم أكثر العسكر على الفرار إلى جهة الشام، وشرعوا في قضاء أشغالهم، واستخلاص أموالهم التي أعطوها للمتضايقين والمستقرضين بالربا وإبدال ما بأيديهم من الدراهم والقروش والفرانسة التي يثقل حملها بالذهب البندقي والمحبوب الزر لخفة حملها، ثم سعوا في مشترى أدوات الارتحال والأمور اللازمة لسفر البر، وفارق الكثير منهم النساء، وباعوا ما عندهم من الفرش والأمتعة.»
ولاحظ «دروفتي» وسائر رجال بعثته بالقاهرة، أن هذا الوهم لم يشغل سواد القاهريين بالتفكير في مصيرهم، بل كان هؤلاء منهمكين في سلب الجند الذين ازدحمت بهم شوارع القاهرة، حتى صار المرء لا يرى فيها إلا عثمانيين وأرنئود يروحون ويغدون سائلين عن الذهب الذي يستبدلونه بما في أيديهم من الدراهم والقروش والفرانسة، ويبيعون فرشهم وأمتعتهم ويبحثون عن الدواب ووسائل النقل المختلفة حتى يتمكنوا من مبارحة القاهرة، ثم إن القاهريين الذين أثقلتهم الضرائب، ما كانوا يهتمون بتغير حكامهم؛ وعلى ذلك، فقد عمد الوكلاء الفرنسيون لإثارة اهتمام الشعب، وإنهاض روحه المعنوية إلى إذاعة الإشاعات عن قرب قدوم جيش فرنسي لطرد الإنجليز، وإعطاء البلاد نظاما سياسيا ثابتا في صالح محمد علي، ففعلت هذه الإشاعات فعلها، وصدقها القاهريون، وعاد الهدوء رويدا رويدا، وسكنت الجماهير، ثم استرد الأتراك والأرنئود شجاعتهم، ولم يعد قسم كبير من الجنود يظهر الرغبة الملحة في الذهاب إلى الشام، وأفاد «طبوز أوغلي» من هذا الهدوء، فشرع في إرسال جملة طوائف من الجند إلى رشيد ودمنهور والمواقع الرئيسية في البحيرة، ولو أن هذه الإجراءات كانت تسير ببطء، ودون تصميم قاطع، لما أصاب عزائم الجميع من وهن وضعف بسبب غياب محمد علي.
Bog aan la aqoon